Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا أمر لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُذكِّر قومه ، والتذكير أنْ تعيد ما أخبرت به وتكرره مراراً ، والتذكير لا يكون إلا للنسيان ، وهذه طبيعة البشر التي جبلهم الله عليها . والتذكير ينفع من وجوه عدة : أولاًَ ينفع المذكّر لأنه حين يُكرِّر التذكرة لا يُحرَم ثوابها ، ثم ينفع المؤمن الذي تُذكره { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . فأحداث الحياة تمر على المؤمن ، ويمكن أنْ تُضبِّب عنده صفاء العقيدة ، فالتذكير يزيل هذا الضباب ويمسح غبار الغفلة والنسيان . لذلك كان سيدنا معاذ كثيراً ما يسأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسائل الفائتة . فقال صلى الله عليه وسلم : " تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأيّما قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء ، وأيّما قلب أُشْرِبها نُكتتْ فيه نكتة سوداء ، حتى تكون على قلبين : أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض ، وآخر كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً " . كذلك التذكير لا مانعَ أنْ ينفع الكافر بدليل أن صناديد الكفر في مكة آمنوا بالتذكير ، المهم أنْ يصادف التذكيرُ قلباً صافياً ليطفىء فيه حمية الجاهلية . وقد رأينا هذه المسألة في قصة إسلام سيدنا عمر ، وكان جباراً في الجاهلية ، ومع ذلك لما سمع القرآن تأثر به ورقَّ له قلبه ، لأنه لما لطم أخته حتى سال الدم من وجهها تحركتْ عنده عاطفةُ الأخوة وما يلزمها من الحنان ورقة القلب ، فلما انفتح قلبه دخله نور الهدى فأسلم ، إذن : نفعه التذكير . وقوله سبحانه : { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } [ الطور : 29 ] الحق سبحانه ينفي عن رسوله هذه التهمة التي اتهموه بها ، وأكد هذا النفي باستخدام أسلوب الخطاب . { فَمَآ أَنتَ … } [ الطور : 29 ] واستخدام الباء في { بِكَاهِنٍ … } [ الطور : 29 ] يعني : ما فيك شيء من الكهانة أبداً ، والكاهن هو العرّاف الذي يدَّعي علم الغيب ، وكانوا كثيرين في هذا الوقت . وكانت لهم خِلْقة شاذة عن الخلق ، فمثلاً كان منهم شِقّ أَنْمار له نصف عين ، ونصف أنف ، ونصف فم ، ونصف يد ، ونصف رِجْل . ومثل هذا ربنا رضي له شيئاً من الصفاء ، فكان الشياطين ينزلون عليه ويُوحون إليه بأشياء من استراق السمع قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وقيل أنْ تُغلَق السماء في وجوههم ، فكانوا يغرُّون الناس بأشياء فيها قليل من الحقيقة وكثير من الباطل يزيدونه من عندهم فيضلونهم . وهؤلاء الكهان كانت لهم كلمة مسموعة ، وكان الناس يستشيرونهم ويأخذون برأيهم في كلِّ أمور دينهم ودنياهم . وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن هذه الصفة ، كذلك نفى عنه صفة الجنون ، والمجنون الذي لا عقلَ له ، ولا يستطيع أنْ يُرتِّب الأشياء ولا أنْ يُدبر حركة حياته . فهل شاهدتم شيئاً من هذا على رسول الله ، وقد عُرِفَ بينكم برجاحة العقل وحُسْن التصرف والصدق والأمانة ؟ كيف وقد مدحه الله بقوله { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] . وقوله سبحانه : { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ … } [ الطور : 29 ] أي : أن نعم الله عليك كثيرة ، ومنها أنك لستَ كما يقول ، لا كاهن ولا مجنون ، أو ذكِّر بنعمة ربك لا بنعمة الكاهن ولا بنعمة المجنون ، ثم ينفي عنه تهمة أخرى ، فيقول : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ … } .