Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 38-41)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا الذي ورد في صحف موسى وفي صحف إبراهيم { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ النجم : 38 ] لا تحمل نفسٌ ذنب نفس أخرى ، فإياك أنْ تظن أن أحداً يتحمل عنك وزرك ، ويقع عليه العذاب بدلاً عنك ، لأن الحساب في الآخرة بالقسط وبالعدل . { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] ليس له إلا عمله ، إنْ خيراً فخير ، وإنْ شراً فشرّ ، وهذا يقطع الأمل في الانتفاع بعمل الغير ، كما قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] فأنت لا تنتفع إلا بعملك وسعيك فاجتهد . وفي آخر سورة الأعلى ، قال سبحانه : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [ الأعلى : 18 - 19 ] لكن لما كان المقام هنا مقام الحديث عن الوفاء فيمن قال له : أتحمل عنك ذنوبك ، ذكر سبحانه صفة الوفاء في سيدنا إبراهيم ، فقال { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [ النجم : 37 ] . لذلك قال تعالى في سيدنا إبراهيم : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ … } [ البقرة : 124 ] نعم أتم سيدنا إبراهيم ما أمره الله به غاية التمام ، ونجح في الامتحان بامتياز مع مرتبة الشرف ، وهذا واضح من قصة بناء البيت ، وقصة ذبح ولده إسماعيل عليهما السلام . فلما أتمَّ ما أمر به قال الله له : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً … } [ البقرة : 124 ] فكانت المكافأة على قدْر الإتمام ، وعلى قدْر صدق الأداء . وقف بعض المستشرقين عند هذه الآية { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ النجم : 38 ] وقالوا : كيف نجمع بينها وبين قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] فأيّهما أصح ؟ نقول : كلاهما صحيح ، لأن لكل منهما معنى ، فالأولى تتحدث عن الذنب وعن الشر يرتكبه الإنسان بنفسه في ذاته ، فهو يحمل عقوبة ذلك ، لا يحمله عنه أحد . أما الآية الأخرى فتتحدث عن الإنسان الذي يُضل غيره ، ضَلَّ في نفسه وعدَّى ضلاله إلى الغير ، فيتحمل وِزْره ووزر مَنْ أضلَّه بغير علم . وقد اختلف العلماء حول قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] فقال بعضهم : المعنى أن الإنسان ليس له إلا ما قدّم ، ولا ينتفع أحد بعمل أحد . وقال آخرون : بل ينتفع الإنسان بعمل غيره ، وفي تاريخنا وسُنّة سيدنا رسول الله ما يؤيد ذلك . ونحن نُرجِّح القول الثاني ، لأن السعي هو مطلق الحركة لغاية ، وهذه الحركة قد تكون بالشر كالذي يسعى في الأرض فساداً وظلماً ، وقد تكون بالخير كالذي يسعى لإصلاح الكون وصلاحه . والسعي يختلف باختلاف قوة الساعي ، ومدى إيمانه بقضايا دينه ووطنه ، فواحد يسعى لنفسه ولا يرى إلا ذاته ، وآخر يسعى لأسرته ، وآخر يسعى لبلده ، وآخر يسعى لإسعاد العلم كله ، نعم : @ عَلَى قَدرِ العَزْمِ تَأتِي العَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المكَارِمُ @@ لذلك قالوا : للرجال أوطان تختلف باختلاف هممهم ، فرجل وطنه نفسه ، ورجل وطنه أسرته ، ورجل وطنه بلدته ، ورجل وطنه العالم كله ، وهذه من فلسفة الإيمان الذي يحثّ المؤمن على أنْ يُعدي خيره للناس جميعاً حتى الكافر منهم . وبهذه الفلسفة ، وبهذا المعنى ينفع الرجل غيره ، والأدلة على هذا الرأي كثيرة ، فسيدنا رسول الله ألم يُبعث للعالم كله ، ألم تشمل رحمته المؤمن والكافر ؟ ألم يقل الله في حقه : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . ومن رحمته بأهل الموقف في الآخرة أنْ يشفع لهم في أنْ يُعجِّل لهم الحساب ، لأنهم في موقف يتمنون فيه الانصراف ولو إلى النار . ومن شفاعته صلى الله عليه وسلم أنْ يشفع في أهل التوحيد الذين دخلوا النار أنْ يخرجوا منها ، أليس هذا انتفاعاً بعمل الغير ؟ ثم ألم يأمرنا الشرع بالصلاة على الميت ؟ ولو كانت الصلاة على الميت لا تنفعه لكانت عبثاً ، بدليل أننا ندعو له فيها ، وهذا انتفاع ، لكن المعارضين لهذا الرأي يقولون : وهل نصلي على كل ميت ؟ نحن نصلي على الميت المسلم ، فالمنفعة تأتي من كونه مسلماً ، فإسلامه هو الذي ينفعه . قلنا لهم : خذوا دليلاً آخر في قوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ … } [ الطور : 21 ] ألم ينتفع الأبناء بصلاح الآباء ؟ قالوا : انتفعوا بصلاحهم لأنهم تحملوا مشقة هذا الصلاح في الدنيا ، فعوَّضهم الله ما حُرِموا منه في الآخرة ، بمعنى أن الإنسان المستقيم الذي يتحرى الحلال في مأكله ومشربه لا شكّ يضيق على أولاده ، على خلاف الذي يرتع في الدنيا طولاً وعرضاً ، ولا يلقي بالاً لمسألة الحلال والحرام فأولاده يكونون أحسنَ حالاً في المأكل والمشرب والملبس ، وهكذا ، إذن ما يجده أبناؤه الصالحون من نعيم الآخرة ، جاء عوضاً عمّا تحمّلوه في الدنيا . أيضا يُروَى " عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرَّ على رجل يصلي وحده ، منفرداً ، فقال : ألاَ رجل يتصدَّق على هذا ؟ أي : يصلي معه ليأخذ ثواب الجماعة " ، أليس هذا انتفاعاً بعمل الغير ؟ وسيدنا رسول الله لما امتنع عن الصلاة على الميت المدين كان امتناعه لمنفعة الميت ، وقد انتفع بهذا الامتناع بالفعل ، رسول الله امتنع عن الصلاة عليه ، لأنه قال في الحثِّ على قضاء الدَّيْن : " مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه … " . ويبدو أن هذا الميت مات وعليه دين لا يستطيع قضاءه ، فأراد رسول الله أنْ يحرك مشاعر الخير في نفوس الصحابة ليبادروا بسداد دين صاحبهم ، وبالفعل لما قال عليه الصلاة والسلام : " صلوا على صاحبكم ، قام أبو قتادة وقال : أنا أسُدُّ عنه يا رسول الله ، عندها صلى عليه رسول الله " ، أليس هذا انتفاعاً بعمل الغير ؟ ولكي ننهي هذا الخلاف ونحلُّ هذا الإشكال نقول : لو تأملنا الآية : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] سنجد فيها ما يؤيد رأينا ، فاللام هنا كما يقول أهل اللغة للملك ، كما تقول : ليس لزيد عندي إلا عشرة . هذا هو الحق . إذن : الله تعالى ذكر العدل ولم يذكر الفضل ، فأنت حين تدخل مطعماً مثلاً لتتناول الغداء وعند الانصراف تقول للعامل : كم الحساب ؟ يقول : كذا وكذا . تقول له خُذْ وخلي الباقي علشانك . هذا بين الناس في أمور الدنيا الهيِّنة ، فما بالك بأمور الدين والشرع ؟ وإنْ كان هذا عطاؤك فكيف بعطاء الله ؟ وقوله تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [ النجم : 40 ] فهذا السعي لا يُترك هكذا دون تعقيب عليه ، بل سيُراقب وسيُرى ، كما قال تعالى : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ … } [ التوبة : 105 ] . وكلمة سوف تدل على المستقبل ، فسعيك لن يذهب هباءً بل عملك في الدنيا سيراه الله ويراه رسول الله ويراه المؤمنون . أى : في الآخرة وسوف تنال عليه الجزاء المناسب ، ليس الجزاء بالعدل ، إنما الجزاء بالفضل . { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } [ النجم : 41 ] تأمل ، لم يقل : الجزاء العادل ، بل الجزاء بالزيادة والفضل والحوافز { ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } [ النجم : 41 ] والأوفى من صيغ التفضيل التي تدل على الزيادة .