Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 103-103)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولماذا لا تدركه الأبصار ؟ لأن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى الرائي ويحدده ، فلو أن الأبصار تدركه لحددته ، وأصبح من يراه قادراً عليه ، ولصار مقدوراً لكم لأنه دخل في إدارككم . فلو أنك أدركت الله لكان الله مقدوراً لبصرك ، والقادر لا ينقلب مقدوراً ابداً ، إذن فمن عظمته أنه لا يُدْرَك : أنت قد ترى الشمس ، ولكن أتدعي أنك أدركتها ؟ ! لا ، لأن الإدراك معناه الإحاطة ، وحين يقال " أدركه " أي لم يفلت منه ، ولذلك عندما سار قوم فرعون وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] . أي لا فائدة لأن البحر أمامنا ، إن تقدمنا نغرق ، وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا . إذن " مُدرك " يعني محاطا به . فإذا أحاطت الأبصار بالله انقلب البصر قادرا ، وصار الله مقدورا عليه . والقادر بذاته - كما قلنا - لا ينقلب مقدورا لخلقه أبدا . { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103 ] . وكل ما عدا الله محتاج إلى الله لبقاء كينونته ، وكينونته سبحانه ليست عند أحد لذلك { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } لأنه إن قدر على الأبصار كلها فهو قادر بذاته ، والباقي مقدور له لأنه مخلوق له ، ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم قادرين بذواتهم { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } . وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا : هل الإنسان يرى ربه أو لا يراه سواء في الدنيا أم في الآخرة ؟ بعضهم قال : لا أحد يرى الله بنص الآية : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } ونقول : لكن هناك آيات في القرآن تقول : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . و " ناظرة " تضمن الرؤية وتفيدها ، وأيضاً فالله يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه لأنه القائل : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] . فالكافرون محجوبون عن رؤية الله عقاباً لهم . ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا كمؤمنين ؟ ، إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الأداء القرآني وما يقولون ؟ وحين يحتج عالم منهم بأن رؤية الله غير ممكنة لأن ربنا سبحانه قال لموسى : { لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] . فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق : { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] . إذن فالله يتجلى لبعض خلقه ، أما أن يراه الخلق في الدنيا فلا لأن تكويننا غير مؤهل لأن يرى الحق ، بدليل أن الأصلب والأقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك . فلما اندك الجبل خر موسى صعقا ، فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلَّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه ؟ ! إذن فهو غير معد له . لقد اختلف العلماء عند هذه الآية ، وتجلَّى خلافهم إلى أبعد حد فمنهم مجيز للرؤية ، ومنهم منكر لها ، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع لأنهم تكلموا عن الرؤية ، والكلام هنا عن نفي الإدراك ، والإدراك إحاطة والرؤية تكون إجمالاً ، إنما الإحاطة ليست ممكنة ، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول : لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة ؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاماً جميلاً ، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة . إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين ، وهي زيادة في الحسنى عليهم ، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول - أيضاً - : لماذا لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا ؟ لأننا في هذه الدنيا معدُّون إعداد أسباب - وفي الآخرة سنكون معدين إعداداً لغير أسباب . أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب ، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني ، تقول لأهل البيت : اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده ، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك ، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا ، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضاً قانون يمكن به أن نرى الله وفي إطار ليس كمثله شيء ؟ إن في الآخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الآن في الأكل والشرب ، والتخلص من الفضلات ، لكن في الآخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد فضلات لأنك أنت الآن تطهى وتهضم ، وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلات لابد أن تخرج ، لكن الطهي والهضم في الآخرة بـ " كن " وليس له فضلات ، إنه طعام بقدرة القادر ، في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد ، وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص ، أما في الآخرة فلا شيء ينقص لأن له مدداً من القيومية . ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } فيقول : { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ولطيف تناسب { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } و " خَبِيرُ " يناسب { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } ولطيف لها معنى خاص ، فالشيء اللطيف يستعمل في دقيق التكوين - ولله المثل الأعلى - إن الميكروب لم نعرفه إلا مؤخراً لأنه بلغ من اللطف والدقة بحيث لا تدركه العين ، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه ، وإن دق الميكروب عن ذلك فلن نراه ، وقد اكتشفنا " الفيروس " ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه ، إذن كلما دق الشيء يلطف ولا يمكن أن نراه ، فالشيء إذا لطف شرف وعلا ونقول - ولله المثل الأعلى - : فلان لطيف المعشر ، والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده . إنك ساعة ما تسمع " لاطف " فهذا اسم فاعل ، مثلها مثل " آكل " ، وحين نقول : " لطيف فهي مبالغة في اللطف لأنه لاطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة ، ولذلك نقول : رحيم ، وهي صيغة مبالغة لأنه يسبغ رحمته على عباده ، وأول مظهر من مظاهر اللطف ، هو تدبير أمورهم الدقيقة تدبيراً يحقق مصالحهم في وجودهم . إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده ؟ لقد خلق لنا الأرض ثلاثة أرباعها ماء ، والربع يابس ، لأنه جل وعلا يريد أن يوسع رقعة الماء لأن المياه كلما اتسعت رقعتها ، كان البخر فيها أسهل وأكثر ، لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط ، وهنا لا يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء . لقد وسع الله سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء ، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها ، وتشرب أنعامنا ، ونسقي الزرع ، وكل ذلك من لطف التدبير . ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أموراً لا توصف ، ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من زوايا لطف الله على خلقه … فواحد قال : هو " سبوغ النعم " وقال الثاني : " دقة التدبير " وقال الثالث : إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه ، فالنعم التي منحها خلقه قليلة لأن خزائنه - سبحانه - ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص ، ولذلك قال سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] . أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة ، وفي المقابل : يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها - تفضلاً منه - كثيرة لأنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها . إذن فمظاهر اللطف لا حصر لها ، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه ، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لبّاك ، وإذا قصدته آواك ، وإذا أحببته أدناك ، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك ، وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل : " يابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم ، وإن دنوت منّي شبراً دنوت منك ذراعاً ، وإن دنوت منّي ذراعاً دنوت منك باعاً ، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول " وكلها مظاهر لطف . وهو المنادي : " توبوا إلى الله " والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل : " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة " وإذا قربت من الله هداك . ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف ، فيقول : الذي يجازيك إن وفيت ، ويعفو عنك إن قصرت ، وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول : من افتخر به أعزه ، ومن افتقر إليه أغناه ، وعالم ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللطف فيقول : من عطاؤه خير ، ومنعه ذخيرة . . أي أنه لو منع عبده شيئاً فإنه يدخره له في الآخرة ، كل هذه مظاهر للطف ، وهذا مناسب لقوله الحق : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما لا نستطيع أن ندركه ، وحين تحلل أنت أي أمر قد لا تصل إلى فهم النعمة ، وإن وصلت فأنت لا تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة . وقوله الحق : { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } مناسب لكلمة " خبير " ، ونحن في حياتنا نسمع كلمة " خبير " فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلات نجد من يقول : نريد أن نسمع رأي الخبير فيها ، وفي القضاء نجد القاضي يستدعي خبيراً ليكتب تقريراً في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم به ، إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل الأمر ، فما بالنا بالخبير الأعلى الذي لا يستعصي عليه شيء في ملكه ، وهو الذي يدرك الأبصار ، فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يناسبها قوله " لطيف " تماماً كما أن { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } يناسبها " خبير " ، وهذا ما يسمونه في اللغة " لف ونشر " وهو ان يأتي بأمرين أو ثلاثة ثم يأتي بما يقابلها ، مثال ذلك قوله الحق : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } [ القصص : 73 ] . فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار ، ثم قال : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] . لنسكن في الليل ، ونبتغي فضله في النهار ، وهذا اسمه - كما قلنا - " لف ونشر " . ويقول الحق - سبحانه - بعد ذلك : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ … } .