Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 52-52)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نعرف أن الحق سبحانه وتعالى خلق الإنسان واستعمره في الأرض ، وجعله طارئاً على هذا الوجود الذي أودع الله له فيه كل ما يلزمه من مقومات حياته وإسعاده . وأراد الحق من البشر أن يكون فيهم استطراق عبودي بحيث لا يوجد متعال على مستضعف ، ولا يوجد طاغ على مظلوم ، حتى تستقيم حركة الحياة استقامة يعطي فيها كل فرد على قدر ما هيئ له من مواهب . فإذا ما اختل ميزان الاستطراق البشري ردهم الحق سبحانه وتعالى إلى دليل لا يمكن أن يطرأ عليه شك ، والدليل هو أنكم أيها البشر تساويتم في أصل الوجود من تراب ، وتساويتم في العودة إلى التراب ، وتتساوون في موقفكم يوم القيامة للحساب ، فلماذا تختلفون في بقية أموركم ؟ إن التساوي يجب أن يوجد . وها هوذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن تهتدي الأمة وكان يكلف نفسه فوق ما يكلفه به ربه ، فيعاتبه ربه لأنه كان يشق على نفسه حرصا على إيمان قومه . وقد يظن بعض الناس أن عتاب الله لنبيه لتقصير ، ونرد على هؤلاء : ليفهم الإنسان منكم هذا اللون من العتاب على وجهه الحقيقي ، فهناك فرق بين عتاب لمصلحة المعاتب ، وعتاب للومه وتوبيخه لأن المعاتَب خالف وعصى ، ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت في يومك العادي إن نظرت إلى ابنك فوجدته يلعب ولا يذهب إلى المدرسة ولا يستذكر دروسه ، فأنت تعاتبه وتؤنبه لأنه خالف المطلوب منه ، ولكنك إن وجدت ابنك يضع كل طاقته ويصرف ويقضي أوقات راحته في المذاكرة . فأنت تطلب منه ألاّ يكلف نفسه كل هذا العناء ، وتخطف منه الكتاب وتقول له : اذهب لتستريح . أنت في هذه الحالة تلومه لمصلحته هو ، فكأن اللوم والعتاب له لا عليه . إذن قد حُلّ هذا الإشكال الذي يقولون فيه : إن الله كثيراً ما عاتب رسوله ، ونوضح أن الحق قد عاتب الرسول له لا عليه لأن الرسول وجد طريق الإيمان برسالته يسير سيرا سهلاً بين الضعفاء ، ولكنه شغل نفسه وأجهدها رجاء أن يتذوق المستكبرون المتجبرون حلاوة الإيمان ، وجاء في ذلك قول الحق : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } [ عبس : 1 - 7 ] . إذن فالعتاب هنا لصالح من ؟ إنه عتاب لصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحين يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] . إن الآية تشير إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس البشرية من أمور حللها الله . والعتاب هنا أيضاً لصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولشدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية القوم أجمعين ، كان يحب أن يعامل الطغاة بشيء من اللين ليتألف قلوبهم . ولكن الطغاة لا يريدون أن يتساووا مع المستضعفين ، فقد مرّ الملأ من قريش ووجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خبّاب بن الأرتّ وصهيباً وبلالاً وعماراً وسلمان الفارسي وهم من المستضعفين ، فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك . وكأنهم يقولون له : إنك قد اكتفيت بهؤلاء الضعفاء وتركتنا نحن الأقوياء ولن نجلس معك إلا أن تبعد هؤلاء عنك لنجلس ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ببديهية الإيمان إلا أن قال : ما أنا بطارد المؤمنين . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أن هناك من أمثالهم من قالوا لغيره من الأنبياء مثل قولهم . فقد قال قوم نوح عليه السلام له ما حكاه القرآن الكريم : { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . وحاول بعض من أهل الكفر أن يعرضوا موقفاً وسطاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إذا نحن جئنا فأقمهم من عندك لنجلس معك فإذا قمنا من عندك فاجعلهم يجلسون . ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الرأي حلا وسطاً يمكن أن يقرب بين وجهات النظر ، واستشار صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر : لو فعلت حتى ننظر ما الذي يريدون . وطالب أهل الكفر من أثرياء قريش أن يكتب لهم رسول الله كتاباً بذلك ، وجيء بالدواة والأقلام ، وقبل الكتابة نزل قول الله : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 52 ] . ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة التي جيء بها ليكتبوا عليها كلاماً يفصل بين جلوس سادة قريش إلى مجلس رسول الله وجلوس الضعفاء أتباع رسول الله . والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما مال إلى ذلك من الكتابة طمعا في إسلام هؤلاء المشركين وإسلام قومهم بإسلامهم رحمة بهم وشفقة عليهم ، ورأى - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا ولا ينقص لهم قدراً فمال إليه فأنزل الله الآية ونهاه عما همّ به من الطرد ، لا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أوقع ذلك وطردهم وأبعدهم ، ثم دعا بعد ذلك بالضعفاء فأتوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يجلس مع المستضعفين ، وإن أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم من المجلس قام ، ولكن الله أراده أن يكرم هؤلاء القوم المستضعفين بعد أن نهاه عن طردهم ، وأن يكرمهم سبحانه بما أُهيجوا فيه ، وجاء أمر إلهي آخر بألا يقوم رسول الله من مجلسه مع المستضعفين حتى يقوموا هم ، فقال الحق تبارك وتعالى : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] . وعندما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " . وبهذا القول الكريم أراد الحق سبحانه وتعالى إكرام الضعفاء والمستضعفين . ويقول سلمان الفارسي وخباب بن الأرت فينا نزلت ، فكان - رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] فترك القيام عنا إلى أن نقوم فكنا نعرف ذلك ونعجله القيام . أي أنهم هم الذين كانوا يقومون أولاً من مجلس رسول الله ، فقول الحق : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } هذا هو قول الله - سبحانه - أمر به رسول الله ومأمور به كذلك كل إنسان من بعد رسول الله ، وفي هذا قمة التكريم للدائمين على ذكر الله من المستضعفين لأنهم أهل محبة الإيمان وهم الذين سبقوا إليه . وهاهوذا أحد خلفاء المسلمين وقد جاءه صناديد العرب الذين أسلموا ، واستأذنوا في الدخول إليه ، فلم يأذن لهم حتى أذن لضعفاء المسلمين . فورم أنف كل واحد من هؤلاء الصناديد وقالوا : - أيأذن لهؤلاء ويتركنا نحن ؟ لقد صرنا مسلمين . فقال قائل منهم يفهم ويفقه أمر الدين : أكلكم ورم أنفه أن يؤذن لهؤلاء قبلكم ، لقد دعوا فأجابوا ، ودعيتم فتباطأتم ، فكيف بكم إذا دعوا إلى دخول الجنة وأُبطئ دخولكم . إنّ هؤلاء الضعفاء يريدون بالطاعة وجه الله ، وكلمة " وجه الله " تدل على أن الإيمان قد أُشْرِب في قلوبهم ، وأنهم جاءوا إلى الإيمان فِراراً بدينهم من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة الذين كانوا يريدونهم على الكفر والضلال . إنهم قد حلا لهم الإيمان ، وحلا لهم وجه الله ، وحلا لهم أن يؤجل لهم كل الثواب إلى الآخرة . وحين نسمع قول الحق : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فهذا وصف لله بأنّه - جل شأنه - له وجه ، ونطبق في هذه الحالة ما نطبقه إذا سمعنا وصفاً لله ، إننا نأخذ الوصف في إطار قوله الحق : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . ويطلق الوجه ويراد به الذات ، لأن الوجه هو السمة المميزة للذوات . فأنت إن قابلت أناساً قد غطوا وجوههم واستغشوا ثيابهم وستروا بها رءوسهم فلن تستطيع التمييز بينهم . ويقال : فلان قابل وجوه القوم . أي التقى بالكبار في القوم . والحق سبحانه وتعالى يقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، ويقول الحق سبحانه : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } وفي هذا القول حرص على كرامة المستضعفين فقد يقول قائل : لقد استجار هؤلاء الضعفاء بالدين حتى يفروا من ظلم الظالمين وليس حباً في الدين ، فيوضح الحق : ليس هذا عملك ، وليس لك إلا أن تأخذ ظاهر أعمالهم وأن تكل سرائرهم إلى الله . { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 52 ] . وكأن الحق يوضح لرسوله : لو كان عليك من حسابهم شيء لجاز لك أن تطردهم ، ولكن أنت يا رسول الله تعلم أن كل واحد مجْزىٌّ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وقد أنزل الله عليك القول الحق : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . إذن فلكل إنسان كتابه . قد سطر وسجّل فيه عمله ويجازي بمقتضى هذا ، ويقول الحق من بعد ذلك : { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ … } .