Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 53-53)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نحن هنا أمام " بعضين " : بعض قد استعلى أن يجتمع ببعض آخر مستضعف عند رسول أرسله الله . ويمتحن الله البعض بالفتنة ، والفتنة هي الاختبار . إن بعضاً من الناس يظن أن الفتنة أمر مذموم ، لا ، إن الفتنة لا تذم لذاتها ، وإنما تذم لما تؤول إليه . فالاختبار - إذن - لا يذم لذاته ، وإنما يذم لما يؤول إليه . وتأتي الفتنة ليُرى صدق اليقين الإيماني ، وها هوذا الحق سبحانه وتعالى يقول : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 2 - 3 ] . إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق الإنسان حين يعلن الإيمان ، إنه - سبحانه - يختبرهم بالمحن والنعم ، وقد اختبر الحق الأمم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق أن علمه سبحانه أزلاً ، ويميز أهل الصدق في الإيمان عن الكاذبين في الإيمان . فمن صبر على الاختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه ، ومن لم يصبر فقد دلّ بعمله هذا على أنه كان يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي ، وإن أصابه شر وفتنة انقلب على وجهه ونكص على عقبيه فخسر الدنيا والآخرة . إذن فالفتنة مجرد اختبار . والوجود الذي نراه مبني كله على المفارقات ، وعلى هذه المفارقات نشأت حركة الحياة . ويجب الإيمان بقدر الله في خلقه فهذا طويل ، وذاك قصير ، هذا أبيض ، وذاك أسود ، هذا مبصر وذلك أعمى ، هذا غني ، وذلك فقير ، هذا صحيح ، وذلك سقيم ، وذلك ليكون كل نقيض فتنة للآخر . فالمريض - على سبيل المثال - فتنة للصحيح ، والصحيح فتنة للمريض ، ويستقبل المريض قدر الله في نفسه ولا ينظر بحقد أو غيظ للصحيح ، ولكن له أن ينظر هل يستعلي الصحيح عليه ويستذله ، أو يقدم له المساعدة ؟ والفقير فتنة للغني ، وهو ينظر إلى الغني ليعرف أيحتقره ، أيجرحه ، أيستغله ؟ والغني فتنة للفقير ، يتساءل الغني أينظر إليه الفقير نظرة الحاسد . أم الراضي عن عطاء الله لغيره . وهكذا تكون الفتن . إن من البشر من هو موهوب هبة ما ، وهناك من سلب الله منه هذه الهبة ، وهذا العطاء وذلك السلب كلاهما فتنة لنؤمن بأن خالق الوجود نثر المواهب على الخلق ولم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب حتى يحتاج كل إنسان إلى مواهب غيره ، وليقوم التعاون بين الناس ، وينشأ الارتباط الاجتماعي . وعندما يخلق الله الإنسان بعاهة من العاهات فهو سبحانه يعوضه بموهبة ما . هكذا نرى أن العالم كله قد فتن الله بعضه ببعض ، وكذلك كانت الجماعة المؤمنة فتنة للجماعة الكافرة ، وكانت الجماعة الكافرة فتنة لرسول الله ، ورسول الله فتنة لهم فساعة يرى رسول الله الكفار وهم يجترئون عليه ويقولون : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . يعرف أن هؤلاء القوم يستكثرون عليه أن ينزل عليه هذا القرآن العظيم ، وفي هذا القول فتنة واخْتبار لرسول الله ، وهو يصبر على ذلك ويمضي إلى إتمام البلاغ عن الله ولا يلتفت إلى ما يقولون ، بل يأخذ هذا دليلاً على قوة المعجزة الدالة على صدق رسالته . والجماعة التي استكبرت وطلبت طرد المستضعفين هم فتنة للمستضعفين ، والمستضعفون فتنة لهم ، فلو أن الإيمان قد اختمر في نفوس المستكبرين لما استكبروا أن يسبقهم الضعاف إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن فكلنا يفتن بعضنا بعضاً . وكل إنسان عندما يرى موهوباً بموهبة لا توجد لديه فليعلم أنها فتنة له وعليه أن يقبلها ويرضى بها في غيره . وما عُبِدَ الله بشيء خيرا من أن يحترم خلق الله قدر الله في بعضهم بعضاً ، ولذلك يختبرنا الحق جميعاً ، فإن كنت مؤمنا بالله فاحترم قدر الله في خلق الله حتى يجعل الله غيرك من الناس يحترمون قدر الله فيك . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] . ووجه الفتنة هنا أن قومًا طلبوا طرد المستضعفين وقالوا كما حكى الله عنهم : { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } ؟ كأنهم تساءلوا عن المركز الاجتماعي للمستضعفين من المؤمنين ، ويأتيهم الرد من الله : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } . فسبحانه هو العليم أزلاً بالبشر ، ولا يقترح عليه أحد ما يقرره . وقد سبق للذين كفروا أن قالوا : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وجاءهم الرد من الحق سبحانه وتعالى فقال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] . وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لم يضع مفاتيح الرسالة في أيدي المشركين أو غيرهم ، ليوزعوا هم الأمور ويقوموا بتدبير الأمر . بل هو سبحانه وتعالى الذي يوزع المواهب في البشر رزقاً منه ليعتمد كل إنسان على الآخرين في مواهبهم التي يعجز عنها ، ويعتمد عليها الآخرون في موهبته التي يعجزون عنها . ومسألة النبوة هي اصطفاء إلهي يكبر ويسمو على كل مقامات الدنيا . ويدل السياق إذن على أن بعضاً من كبار العرب طلبوا أن يطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضاً من المستضعفين ، فأراد الله أن يطمئن المستضعفين بشيء عجل لهم به في الدنيا وإن كان قد جعله لبقية المؤمنين في الآخرة . لذلك يقول الحق : { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ … } .