Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 168-168)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضاً : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً … } [ الأعراف : 160 ] . ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } . وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن ، ويعيشون في ذلة لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم بعضاً منذ البداية ، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطاً وأولاد إخوة على خلاف دائم . وهنا يقول الحق : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } . ومعنى { وَقَطَّعْنَاهُمْ } أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها ، وأيضاً لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه ، ولذلك قلنا : إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبداً - كما قلنا - فعندما تذهب إلى أسبانيا مثلاً تجد لهم حيًّا خاصًّا ، كذلك في فرنسا ، وألمانيا ، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم ، لا يدخل فيه أحد ، ولا يأخذون أخلاقاً من أحد ، وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ … } [ المائدة : 21 ] . فبعد أن مَنَّ عليهم بأرض يقيمون فيها ، قالوا : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] . فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطناً واحداً يتجمعون فيه ، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها . ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام . ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلا بد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم ، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة ، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ … } [ الإِسراء : 104 ] . لقد قلنا : إن السكن في الأرض هو أن يتبعثروا فيها لأنه - سبحانه - لم يحدد لهم مكاناً يقيمون فيه ، فإذا جاء وعد الآخرة ينتقم الله منهم بضربة واحدة ، ويأتي الحق بهم لفيفاً تمهيداً للضربة القاصمة : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } . هناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب ، وأهل الثراء وأهل المال ، وأهل بنايةٍ للحصون ، وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد معهم معاهدة . فالذي دخل منهم في الإِيمان استحق معاملة المؤمنين ، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، والحق قد قال : { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] . وقلنا إن هذه تسمى صيانة الاحتمال لمن يفكرون في الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } . و " دون " أي غير ، فالمقابل للصالحين هم المفسدون . أو منهم الصالحون في القمة ، ومنهم من هم أقل صلاحاً . فهناك أناس يأخذون الأحسن ، وأناس يأخذون الحسن فقط . ويتابع الحق سبحانه : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الاعراف : 168 ] . كلمة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى : أن منهم أناساً صالحين ، ومنهم دون ذلك ، أي كافرون لأنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والأحسن فقط ، لما جاء الحق بـ { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . أو هم يرجعون إلى الأحسن . و " بلونا " أي اختبرنا لأن لله في الاختبارات مطلق الحرية ، فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعاً منك لأنه - سبحانه - عالم به ، من قبل أن تعمل ، لكن علمه الأزلي لا يُعتبر شهادة منا . لذلك يضع أمامنا الاختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } . وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغرنا الأسباب في الدنيا عن المُسبِّب الأعلى الذي وهبها : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها . فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح ، وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الاختبار . إذن فهناك الابتلاء بالنعم ، وهناك الابتلاء بالنقم . والابتلاء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو لا يصبر ، أي ليراه ويعلمه واقعاً حاصلاً ، وإلا فقد علمه الله أزلاً . ولذلك يقول الحق سبحانه : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . إننا نجد من يقول : { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } . ومَن يقول : { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } والحق يوضح : أنتما كاذبان . فليست النعمة دليل الإِكرام ، ولا سلب النعمة دليل الإِهانة . ولكن الإِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة بشكر ، وتستقبل النقمة بصبر . إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إلا اختبارا . وكذلك إن قَدَر الله عليك رزقك وضيقه عليك ، فهذا ليس للإِهانة ولكنه للاختبار أيضاً . ويوضح الحق جل وعلا : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 17 - 20 ] . أنتم لا تطعمون في مالكم يتيماً ولا تحضون على طعام مسكين . فكيف يكون المال نعمة ؟ إنه نقمة عليكم . وهنا يقول الحق : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . ولله المثل الأعلى ، نقول : إن فلاناً أتعبني ، لقد قلبته على الجنبين ، لا الشدة نفعت فيه ، ولا اللين نفع فيه ، ولا سخائي عليه نفع فيه ، ولا ضنى عليه نفع فيه ، وقد اختبر الله بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل على أن هذا طبع تأصل فيهم . ويقول الحق بعد ذلك : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ … } .