Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 169-169)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك ، ويقال : فلان خليفة فلان ، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون : { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي … } [ الأعراف : 142 ] . أي كن خليفة لي ، إلا أنك حين تسمع " خَلْفُ " بسكون اللام ، فاعلم أنه في الفساد ، وإن سمعتها " خَلَفٌ " بفتح اللام فاعلم أنه في الخير ، ولذلك حين تدعو لواحد تقول : اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف . وهنا يقول الحق : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } . والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون ، والشاعر يقول : @ ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب @@ الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة ، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم وسماحتهم فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم لأن هذا الجوار كان نعمة أيضاً . وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلاً طيباً عنده نعمة ، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب . والشاعر هنا قال : " وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب " أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب . وعرفنا قصة " أبودلف " وكان رجلاً كريماً في بغداد . يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه . وطرأ طارئ على جار فقير له ، وأراد أن يبيع داره ، فعرض الدار للبيع ، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه ، فقال : داري بمائة دينار . لكن جواري لأبي دلف بألف دينار ، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال : إن رجلاً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه . قالوا له : فليبق جاراً لنا وليأخذ ما يريد من مال . { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ } . والكتاب هو التوراة ، والخَلْف أخذوه ميراثاً ، والشيء لا يكون ميراثاً إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق ، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب ؟ لقد ورثوه . وبُلِّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه . { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ … } [ الأعراف : 169 ] . أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير ، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب - التوراة - من المواثيق ، والحلال ، والحرام ، وافعل كذا ولا تفعل كذا لم يلتفتوا لكل هذا لأنهم قالوا لأنفسهم : إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة ، وهم يريدون النعيم القريب ، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ . وبذلك أخذوا عَرَضَ الحياة الأدنى وهو عرض الدنيا . ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله ، والدنيا فيها جواهر وأعراض ، والجوهر هو الشيء الذاتي ، فالإِنسان بشحمه ولحمه " جوهر " أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض ، قصيراً أو طويلاً ، صحيحاً أو مريضاً ، وغنيًّا أو فقيراً فهذا عرض . إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول ، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء ، وكما يقول علماء المنطق : الجوهر ما قام بنفسه ، والعَرَض ما قام بغيره . وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا ، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام ، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة . ونعلم أن الإِنسان - حتى المؤمن - قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة ، فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث ، وحين يقول الحق : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا … } [ المائدة : 38 ] . إنَّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلاً ، ولم يترك الحق هذا الجرم بدون عقوبة . وإن رأينا مسلماً يسرق ، نقل له هذا فعل مُجَرَّم من الإِسلام ، وله عقوبة ، والمُجْرِم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين ، بل هو منسوب للدين فقط ، وعندما يرتكب مسلم ذنباً أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته ، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها ، ثم تاب ، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل ، ثم يقول : سوف أتوب . وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سيغفر الله لنا ، بل إنهم لم يفكروا في التوبة ، ووجدنا منهم من يقول : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ … } [ المائدة : 18 ] . ويأتي الرد : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ … } [ المائدة : 18 ] . إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم . وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر لأن هناك فرقاً بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية . لكن أن يرتكب الإِنسان المعصية ويقول : ليست بمعصية ، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر ، ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله ، نقول له : اقْبَلْ أن تكون عاصيًّا ولا تدخل نفسك في الكفر لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله ، أما إن قلت : هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك . لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سيغفر الله لنا : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } . وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة . لذلك ينبههم الحق سبحانه : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ … } [ الأعراف : 169 ] . لقد ورثوا الكتاب ، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موثقٌ ألا يقولوا على الله إلا الحق ، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق ؟ . طبعاً لا ، هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب ، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقاً لقوله الحق : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } . وكلمة " دَرَسَ " تدل على تكرر العمل ، فيقال : " فلان درس الفقه " أي تعلمه تعلماً متواصلاً ليصير الفقه عنده ملكة . وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة ، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة . وحتى نفهم الفرق بين " العلم " و " الملكة " ، نقول : إن العلم هو تلقي المعلومات ، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده المسألة آلية ، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة . إذا التقى صائم - مثلا - بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فوراً لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه . لكن إن تسأل تلميذاً مبتدئاً في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة لأن الفقه لم يصبح لديه ملكه . والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في المادية التي تحتاج إلى دُرْبة ، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة . إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب . إذن فقوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم . ونحن أخذنا " درس العلم " من مسألة حسية هي " درس القمح " ، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح ، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه ، ويقطع لنا العيدان ، وهذه العملية تسمى " درس القمح " . إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألاّ يقولوا على الله إلا الحق ، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة ، لكنهم أخذوا العرض الأدنى . وكان لا بد أن يأتي لنا بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق : { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأعراف : 169 ] . وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير ، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر ، وزنوا المسألة بعقولكم ، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح . ويقول الحق بعد ذلك : { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ … } .