Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 179-179)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وذرأ ، بمعنى بث ونشر ، وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] . كما يقول الحق أيضاً : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] . ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا الإنس والجن لأن كلا منهما في سلك الاختيار ، وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] . وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا ، وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل ، فقد يكون الشيء كثيراً ومقابله أيضاً كثير ، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [ الحج : 18 ] . إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبحه ، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط ، حيث يقول الحق في ذات الآية : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحج : 18 ] . أي هناك كثير يسجدون ويخضعون لله ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب . وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] . فقد يثور في الأذهان سؤال هو : هل أنت خالقهم يا رب لجهنم ، ماذا يستطيعون إذن ؟ ولا شيء في قدرتهم ما دمت قد خلقتهم لذلك ؟ ونقول : لا . ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى " لام العاقبة " ، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . ومعنى العبادة طاعة الأمر ، والكف عن المنهي عنه ، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل ، فالعبادة - إذن - تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ ، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى ومنزه سبحانه وتعالى : يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك : لماذا يقف منك هذا الموقف العدائي ، أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه ؟ فترد عليه : " زرعته ليقلعني " . هل كان وقت مجيئك به كنت تريده أن يقلعك ؟ لا . ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا . والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه ، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة ، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه " لام العاقبة " ، أي ما صار إليه غير مرادك منه ، ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 7 - 8 ] . هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً ؟ لا ، لأن زوجة فرعون قالت : { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا } [ القصص : 9 ] . فقد كانت علة الالتقاط - إذن - هي أن يكون قرة عين ، لكنه صار عدواً في النهاية ، وهذا اسمه - كما قلت - لام العاقبة . وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار ، في قوله الحق : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] . لأن علة الخلق في الأصل هي العبادة ، والعبادة تقتضي طائعاً وعاصياً ، فالذي يطيع يدخل الجنة ، والذي يعصي يدخل النار ، ولله المثل الأعلى ، أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو المدير : إننا نعلم جيداً من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم وأحددهم . لم يقل العميد أو المدير لأنه يتحكم في إجابات الطلبة ، ولكنه علم من تصرفاتهم ما يؤولون إليه ، والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير . وعلى ذلك فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] . يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، وهم من يعرضون عن منهجنا ، ثم يأتي الحق بالحيثيات لذلك وهي أولا : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] . وثانياً : { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] . وثالثاً : { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 179 ] . ولقائل أن يقول : إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم ؟ . وما دامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى فما ذنبهم ؟ وكذلك ما دامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون ؟ . ونقول : لا ، لم يخلقهم الله للعذاب ، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم ، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط فقط للحصول على الشهوة ، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها ، وكذلك الآذان . وكل منهم يرى غير مراد الرؤية ، ويسمع غير مراد السمع . والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الأذن … أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات . ونعلم أن الإدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس ، فنحن نعرف أن الحرير ناعم باللمس ، ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم ، ونعلم - أن العسل حلو الطعم بالذوق . إذن لكل وسيلة إدراك ، وهي من المحسَات ، وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلماً بها . وكلنا يعرف أن النار محرقة لأن الإنسان أول ما يلمس النار تلسعه ، فيعرف أن النار محرقة ، ويتحول الإدراك إلى إحساس ثم إلى معنى إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس الإنسانية وملكاتها الحواس الظاهرة ، وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الأشياء بالحمل . وقد انتبه العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل لأنك حين تحمل شيئاً قد تجهد العضلة أكثر إن كان الحمل ثقيلاً . وحينما ترى واحداً من قريب وواحداً من بعيد ، فهذه اسمها حاسة البعد ، وكذلك حاسة البين وهي التي تميز بها سمُك القماش مثلاً . كل الحواس - إذن - تربي المعاني عند الإنسان وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب . ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] . والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها الاقتناع من المرائي والمحسّات ، لكنّ هؤلاء الكافرين لا يرون بأعينهم إلى هواهم ، وكذلك لا تسمع آذانهم إلا ما يروق لهم ، فلا يستمعون إلى هدى ، ولا يلتفتون إلى الآيات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بلا فقه ، فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الأشياء التي تروق لانحرافهم . ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] . وهنا وقفة لإثارة سؤال هو : ما ذنب الأنعام التي يُشبه بها الكفار ؟ إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله هي فقط ترى المْرعَى فتذهب إليه ، وترى الذئب فتفر منه ، وتتعود على أصوات تتحرك بها ، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه ، لا بعقله . والإنسان منا لا يبتعد عن الضرر إلا حين يجربه ويجد فيه ضرراً . لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل الغريزة ، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات ، وفطره الله على غريزة تُسَيّرهُ إلى مقومات صالحة ، ومثال ذلك : أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما ، ويعطي الله له لوناً يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه . ومثال آخر : نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان ، ولا بد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان ، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها ، بجانب أنها وسيلة للنسل . ولذلك نجد كثيراً من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } [ المائدة : 31 ] . إذن فالغراب مَهْدِيّ بغريزته إلى كل متطلباته ، ولذلك نجد من يقول : كيف نشبه الضال بالأنعام ؟ نقول : إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام ، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حيث لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل . وبذلك صار أضل من الأنعام ، كلمة " أضل " تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة ، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء . لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس ، لا يعرفون ربهم ، بينما الأنعام ، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده . وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] . وعلى ذلك فكل الجماد - إذن - يعلم صلاته وتسبيحه . ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية . والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك ، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله " بالتكشير " ، وقال واحد منهم لآخر : أتشتاق إلى ربك ؟ فرد عليه : لا . تساءل الآخر : كيف تقول ذلك ؟ . قال له : نعم . إنما يُشْتَاقٌ إلى غائب . { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] . ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج ، أو لعدم مُذَكِّر ، أو لعدم وجود مُنْذرٍ أو مُبَشِّر . بل هي غفلة منهم ، فالأمور واضحة أمامهم ، لكنهم يهملونها ويَغُفلون عنها . ويقول الحق بعد ذلك : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ … } .