Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان ، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة ، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان ، من أبينا آدم وإِغواءه له . والفتنة في الأصل هي الاختبار ، وتُطلق - أحياناً - على الأثر السيىء حيث تكون أشد من القتل ، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة ؟ لا لأن الفتنة هي الاختبار ، وفي الاختبار إمّا أن ينجح الإِنسان ، وإمّا أن يرسب ، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شراً . وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم ، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض ، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض فلله منهج يحكمه في كل حركاته ، وما دام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج ، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض ، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له ، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف . وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية ، وأوضح له : أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة ، ولكن لا تقرب هذه الشجرة . و " كُلْ " أَمْرٌ ، و " ولا تقرب " نَهْيٌّ . وكل تكليف شرعي هو بين " لا تفعل " وبين " افعل " . وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله ، فلما قرب آدم وحواء الشجرة وأكلا منها خالفا أمر الله في { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لا بد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة ، فبدت له ولزوجته سواءتهما ، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع ، فأمره الله : أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة . ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة ، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه ، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ ، وتدركه الغفلة ، وقد يخالف منهج الله في شيء ، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب ، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبياً جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة . ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] . إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إن أراد التوبة ، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق : { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } [ طه : 122 ] . إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر ، يخطئ ويصيب ، ويسهو ويغفل . ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً ، وما دام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له : { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 122 ] إذن لا يصح لنا أن نقول : كيف يعصي آدم وهو نبي ؟ ! نقول : تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها ، والبشرية منقسمة إلى قسمين : بشر مبلَّغون عن الله ، وأنبياء يبلِّغون عن الله ، فله في البشرية أنه عصى ، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه . والذين يقولون : إن آدم كان مخلوقاً للجنة ، نقول لهم : لا . افهموا عن الله ، لأنه يقول : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } . إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض . إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض ، والاّ فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته ، إلا أن الله قد قبل منه توبته ، وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة ، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض . وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها ، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا ، وألاّ نقع في الفتنة كما وقع آدم . { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ … } [ الأعراف : 27 ] . وهذا نهي لبني آدم وليس نهياً للشيطان ، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل ، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته ، بل ينهاه عما في مكنته ، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } . فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان لأن أمره مع أبيكم واضح ، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة ، ويتساءل البعض : لماذا لم يقل الله : لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم ، وقال : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } ؟ . ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن . وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف . كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة . ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك ، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار . وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز لينبه ذهن السامع لكلام الله . فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء ، وعدم الفضول في الأساليب . { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ … } [ الأعراف : 27 ] . والفتنة - كما علمنا - هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به ، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر ، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به . كذلك الفتنة بالنسبة للناس ، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة ، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء . فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء . والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن ، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر . فقد قال الحق سبحانه : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ … } [ الجن : 11 ] . والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً ، واقرأ قول الحق سبحانه : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ … } [ الكهف : 50 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ … } [ الأعراف : 27 ] . و " قبيله " هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] . إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله ، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك ، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر لأنه ردّ الحكم على الله . إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه ، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته . { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ … } [ الأعراف : 27 ] . وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان ، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } . وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية ، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن ، وهم من قال فيهم سبحانه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً … } [ الأنعام : 112 ] . وكلمة { زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ } تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها ، ويتأثر بزخارف القول . وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول ، فللباطل دعاته ، ومروجوه ، ومعلنوه ، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله ، ونلاحظ أن أعداء الله ، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في البشر ، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبّة إيمان في نفوس الناس ، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم ، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإِسلام . { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } . إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله . والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة . واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم فقال قوم : " إنهم جنوده وذريته " . ويقصدون جنوده من البشر ، ولم يلتفتوا إلى قول الحق : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } فلا بد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية لأننا نرى البشر ، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره ، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد ، والجن يرانا ولا نراه ، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف ، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة . فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف ، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار ، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه . إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان ، ولذلك أخذ خفة حركته . ونحن لا نراه . إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى ، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار ، والملائكة من نور ، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور ، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان ، وجاء لرسول الله وقال لنا صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " . وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّته ، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر ، فيتمثل لهم مادة . " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال : " إن عفريتاً من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة ، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون " . وذلك من أدب النبوة . إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته ، فإذا ما أرادك أن تراه … فهو يظهر على صورة مادية . وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله ، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره ، فقال بعضهم : حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، لابد أن نقول : إننا لن نراه . وأقول : إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته ، بل على صورة مادية يتشكل بها ، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان ، وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه ، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به ؟ إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة ، وحركة المجتمع لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك ، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك . ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به . وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه ، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته . وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء ، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه ، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله ؟ . إذن فالشيطان لا يتمثل ، هكذا قال بعض العلماء ، ونقول لهم : أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل ، يتمثل تمثلاً استمرارياً ، لا . هو يتمثل تمثل الومضة لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو بصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها ، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً ، إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه ، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً لذلك يختار التمثل كومضة ، ثم يختفي ، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل . سيجد فيه شيئاً مخالفاً ، كأن يتمثل - مثلاً - في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي لأنه يخاف أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه . وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه . ويتابع الحق سبحانه : { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 27 ] . والشياطين من جَعْل الله ، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم وإلا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم . لفعل … إذن فكل شيء في الوجود ، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين : طاقة تفعل الفعل ، وداعٍ لفعل الفعل . فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل ، والداعي إلى الفعل ، فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان . فأنت تقول : العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة ، ونقول : إن العامل لم ينسج ، وإنما الآلة ، والآلة لم تنسج ، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك ، والصانع لم يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها . إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل ، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع ، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة ، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله ، وفي مادة خلقها الله . إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً لأنه خالق الطاقة ، وخالق من يستعمل الطاقة ، والإنسان يوجه الطاقة فقط ، فإذا قلت : العامل نسج يصح قولك ، وإذا قلت : الآلة نسجت ، صح قولك ، وإذا قلت : إن المصنع هو الذي نسج صح قولك . إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله ، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور . فإذا قال الله { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ } أي خلّينا بينهم وبين المفتونين بهم ، غير أننا لو أردنا ألاّ يفتنوا أحداً لما فتنوه . وهذا ما فهمه إبليس . { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه ، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار ، وهذه اسمها تخلية ولذلك لا معركة بين العلماء . فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله ، ونسب كل فعل إلى الله ، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر ، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء ، ومنهم من قال : إن الإنسان هو الذي فعل المعصية … أي أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له ، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم جميعاً . { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 27 ] . إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن ، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان ولياً . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا … } .