Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والقسط هو العدل من قسط قِسطاً ، وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً أي جار وعدل عن الحق ، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون ، وكلمة العدل هي التسوية ، فإن ملت إلى الحق ، فذلك العدل المحبوب . وإن ملت إلى الباطل ، فذلك أكره مكروه { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ } . وهذه جملة خبرية . { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ … } [ الأعراف : 29 ] . وهذا فعل أمر ، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف الأمر على الخبر ، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على " قل " ، فكأن المقصود هو أن يقول : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . والوجه هو السمة المعينة للشخص لأن الإنسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إلا إن كان له لباس مميز لا يرتديه الا هو . والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي ، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض ، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض . وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه : إنه ساجد . { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [ الحج : 18 ] . والشجر يسجد وهو نبات ، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان ، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضاً ساجدة ، لكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . لأن الإنسان له خاصية الاختيار ، وبقية الكائنات ليس لها اختيار . إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه ، والمراد منه مجرد الخضوع ، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا ، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً ، ونباتاً ، وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد . { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ … } [ الأعراف : 29 ] . والإقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب منه ، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته ، وعَوَّجته . إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله ، وإن لم تفعل ذلك فأنت تختار الاعوجاج لوجهك ، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا ، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً . والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله ، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم ، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم ، أو تفوت أنت النعيم ، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف . { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ … } [ الأعراف : 29 ] . والمسجد مكان السجود ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونُصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة وخُتم بي النبيون " . إذن فكل موضع في الأرض مسجد فإن دخلت معبداً لتصلي فهذا مسجد . والأرض كلها مسجد لك . يصح أن تسجد وتصلي فيها . وتزاول فيها عملك أيضاً ، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه ، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي ، وكذلك الحقل تصلي فيه ، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها ، ولا يزاول فيه شيء آخر . فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } في جميع أنحاء الأرض . وإن أخذتها على المسجد ، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص ، وله متجه وهو الكعبة . وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان . والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله ، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك . ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة . ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله . وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها ، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة . وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله . وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد ، أو { أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد ، وهنا اختلف العلماء ، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً ؟ . والأكثرية منهم قالوا ندباً ، والأقلية قالوا حتماً . ونقول : الحتمية لا دليل عليها . من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم " . ونقول : هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل ؟ لم يفعل رسول الله ذلك ، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة . ويقول الحق سبحانه : { وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ … } [ الأعراف : 29 ] . والدعاء : طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي . وحين تدعو ربك ادعه مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين ، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه ، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص ، وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا تأتي له هذه المسألة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " . إذن فالإِخلاص عملية قلبية ، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائماً عن اضطرار ، ومعنى اضطرار . أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها . فذهبت للمسبب ، وما دمت مضطراً سيجيب ربنا دعوتك لأنك استنفدت الأسباب ، وبعض الناس يدعون الله عن ترف ، فالإِنسان قد يملك طعام يومه ويقول : ارزقني ، ويكون له سكن طيب ويقول : أريد بيتاً أملكه . إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب ، فيجب أن نأخذ بها ، وغالبية دعائنا عن غير اضطرار . وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله . ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ] . والله سبحانه يخاطب الإِنسان ، ويحننه ، مذكراً إياه بـ " افعل كذا " و " افعل كذا " و " افعل كذا " . وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل ، لكنه - جل وعلا - شاء أن يجعل الإِنسان سيداً وجعله مختاراً ، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد ، وأثبت لنفسه - سبحانه - صفة القدرة ، ولا شيء يخرج عن قدرته فأنت أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع ، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله ، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله ، وبما فيه من عافية ، وبما فيه من قوة ، وبما فيه من مال ، تجد الحق يلفته : لاحظ أنك لن تنفلت مني : أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا ، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب ، ولن تجد إلا المسبب ، ولذلك اقرأ : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . كأن المُلْكَ - قبل ذلك - أي في الدنيا - كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك ، وذلك يملك ، وآخر يوظف ، لكن في الآخرة لا مالك ، ولا مَلِكٌ إلا الله ، فإياكم أن تغتروا بالأسباب ، وأنها دانت لكم ، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها لأن مرجعكم إلى الله . ويقول الحق بعد ذلك : { فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً … } .