Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 63-63)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أَوَ عَجِبْتُمْ } وكان من الممكن أن يقول : " أعجبتم " ، لكن ساعة أن يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف . فاعرف أن هناك عطفاً على جملة أي أنه يقول : أكذَّبْتُم بي ، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني { ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . والذكر ضد النسيان ، وأن الشيء يكون على البال ، ومرة يتجاوز البال ويجري على اللسان . وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن ، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن : { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } [ آل عمران : 58 ] . وكذلك في قوله الحق : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن ، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الإِعلامية الواسعة . وقد قال الحق لرسوله عن القرآن : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ … } [ الزخرف : 44 ] . أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة لأن الناس سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب ، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن ، إذن بفضل القرآن " العربي " ، سيظل اسم العرب ملتصقاً ومرتبطاً بالقرآن ، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفاً جديداً . أي أن القرآن شرف لكم . ويقول سبحانه : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } [ الأنبياء : 10 ] . أي فيه شرفكم ، وفيه وصيتكم ، وفيه تاريخكم ، ويأتي الإِسلام الذي ينسخ القوميات والأجناس ، ويجعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط . { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ … } [ الحجرات : 13 ] . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " . وسيظل القرآن عربياً ، وهو معجزة في لغة العرب ، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه الدنيا . إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن ، ومن صيت القرآن . والحق يقول : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 ] . أي أن شرفه دائم أبداً . حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي ، نجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق العلمي في القرآن ، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة ، وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم . هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج ، وقد يتناساه بعضهم ، لكن في مسألة القرآن نجد الكل يتنبه . وكما قلت من قبل : قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفاً كبيراً على صدرها ، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف ، وكل هذا ذكر . وتجد القرآن يُقرأ مرتلاً ، ويُقرأ مجوداً ، ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن . وكل هذا ذكر وشرف كبير . عرفنا أن " الذكر " قد ورد أولاً بمعنى القرآن ، وورد باسم الصيت والشرف : ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل فالحق سبحانه يقول : { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنبياء : 1 - 2 ] . أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر . ويقول سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] . إذن فالمراد بالذكر - أيضاً - كل ما نزل على الرسل من منهج الله . ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار . والتذكير ، والتذكر فيقول سبحانه : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ … } [ المائدة : 90 - 91 ] . والمراد هنا بالذكر : الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله . ومرة يراد بالذكر : التسبيح ، والتحميد . انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ … } [ النور : 36 - 37 ] . وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله . وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عباده ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة . اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ] . وفي آية أخرى : { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45 ] . وما دام قد قال جل وعلا : { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } أي ذكر الله لهم بالنعم والخيرات ، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال . فهناك إذن ذكر ثانٍ ، ذكر أقل منه ، وهو العبادة لربهم بالطاعة ، وهنا يقول الحق : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الاعراف : 63 ] . ما وجه العجب هنا ؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها ، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا ؟ ولو كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب . وعجبتم لماذا ؟ اقرأ - إذن - قول الحق سبحانه وتعالى : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ ق : 1 - 2 ] . موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول ؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً . { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ ق : 2 ] . وجاء العجب أيضاً في البعث . فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية ؟ ! إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات . العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا في الإِيمان بوجود إِله . وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئاً هندسته بديعة ، وحكيمة ، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإِنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من قبله ، كان المنطق أن يبحث هذا الإِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن صنع الكون ، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون ، تتعجبون ؟ ! كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان . لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس ، بل أنت طارئ على الكون والأجناس ، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك ؟ إذن فالكلام عن الإِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل ، وقلت قديماً : هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ، وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبداً ، ثم جاع ، ولم يجد طعاماً ، وقهره التعب ، فنام ، ثم أفاق من هذه الإِغفاءة وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً في المكان ، بالله قبل أن يأكل ألا يتساءل عمن أحضرها ؟ ! ! كان الواجب يقتضي ذلك . إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه ، وأن نؤمن به وهو الإِله الذي لا ينتفع بطاعاتنا أو بعبادتنا ، ولا تعود عليه العبادة بشيء ، بل تعود علينا ، والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات ، ولكن يُقابِل ذلك الثوابُ في الآخرة . وهناك من قال : ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف ؟ ما دام لا يستفيد . إنّ العقل كاف ليدلنا - دون منهج - إلى ما هو حسن فنفعله ، وما نراه سيئاً فلا نفعله ، والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيىء . ونضطر له نفعله ، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله . ونقول لهذا القائل : لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن ، هل حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين ؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك في الكون . ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة ، الحسن عندك أن تأخذها ، والحسن عند غيرك أن يأخذها . لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش مَن يعدل بينك وبين غيرك دون هوى . وألاّ يكون واحد أولى عنده من الآخر . إذن لا بد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيء لأن الحسن بالمنطق البشري ستصطدم فيها أهواؤنا . ومثال آخر : افرض أننا دخلنا مدينة ما ، ورأينا مسكناً جميلاً فاخراً وكل منا يريد أن يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له ، لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره ، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير . فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها ، لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها ؟ لا . إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه المقدمات . فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم . ولماذا لم يقل الحق : لسان رجل ؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] كأنه يقول لهم : إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل . ومهمة الرسل صعبة فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول ، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولاً قد اختاره ليدلـله على رقاب الناس ، لا . لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة ، والرسول صلى الله عليه وسلم - كما تعلمون - لم يشبع من خبز شعير قط ، وأولاده وأهله - على سبيل المثال - لا يأخذون من الزكاة ، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة ، وكل تبعات الدعوة على الرسول ، وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول ، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط ، إنما " على رجل منكم " تعطي البلاغ ومسئولية البلاغ على هذا الرجل . { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 63 ] . ما هو العجب ؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة . وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإِنسان . وطالب أن يكون الرسول من الملائكة لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب . لكن كيف يصبح الرسول ملكاً ؟ وهل أنت ترى الملك ؟ إن البلاغ عن الله يقتضي المواجهة ، ولابد أن يراه القوم ويكلموه ، والملك أنت لن تراه . إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل . إذن أنتم تستعجبون من شيء كان المنطق يقتضي ألاّ يكون . { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . وقولهم هذا في قمة الغباء . فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإِيمان لأن الرسول منهم . وقد عرفوا ماضيه من قبل ، وكذلك أنسوا به ، ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولاً لخزي واستحيا أن يقول لهم : استقيموا . وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للاستقامة كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم : إنه لم يكذب في أمور الدنيا فكيف يكذب في أمور الآخرة ، ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب على الله ؟ ولأنه منكم فلا بد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق : { عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . إذن فمهمته أن ينذر ، والإنذار لقصد التقوى ، والتقوى غايتها الرحمة ، وبذلك نجد هنا مراحل : الإنذار وهو إخبار بما يسؤوك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له ، وتكف عنه لأنه سيتعبك ويضايقك . والبشارة ضد الإنذار ، لأنها تخبر بشيء سار زمنه لم يأت ، وفائدة ذلك أن يجند الإنسان كل قوته ليستقبل الخير القادم . وأن يبتعد عن الشيء المخيف . وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير ، وبذلك يحيا الإنسان في التقوى التي تؤدي إلى الرحمة . إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يُلح عليها فطرياً ، وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت ، فقد جاءت الرسالة موافقة للمقدمات ، وقد جاء الرسول ولم يأت مَلَكاً ليكون قدوة . وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه من الأعيان ومن صاحب الأتباع حتى لا يقال إن الرسالة قد انتشرت بقهر العزوة ، إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة ، فمخافة أن يقال : إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان . ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم ، وهذه شهادة منهم بأن القرآن في ذاته منهج ومعجزة . ولم يتساءلوا : وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي يشرف بالقرآن ؟ إن محمداً يشرف بالقرآن لذلك يقول الحق : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [ هود : 27 ] . وهذه هي العظمة لأن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم ، ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم ، لا ، بل يمر على أتباع رسول الله فترة وهم ضعاف مضطهدون ، ويؤذوْن ويهاجرون ، فالمهمة في البلاغ عن الله تأتي لينذر الرسول ، ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجة التقوى ، والتقوى جاءت نتيجة الإنذار . ويقول الحق بعد ذلك : { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ … } .