Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهنا نقل المسألة من سماع إلى استجابة لأن مهمة السماع أن تستجيب . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } . أي استجيبوا لله تعالى تشريعاً ، وللرسول صلى الله عليه وسلم بلاغاً ، وغاية التشريع والبلاغ واحدة ، فلا بلاغ عن الرسول إلا بتشريع من الله عز وجل ، بل وللرسول صلى الله عليه وسلم تفويض بأن يشرع . ورسول الله لم يشرع من نفسة ، وإنما شرع بواسطة حكم من الله تعالى حيث يقول : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - : نسمع أن فلاناً قد فُصل لأنه غاب خمسة عشر يوماً عن عمله في وظيفته ، ويعود المحامي إلى الدستور الذي تتبعه البلد فلا يجد في مواد الدستور هذه الحكاية ، ويسمع من المحامي الأكثر خبرة أن هذا القانون مأخوذ من تفويض الدستور للهيئة التي تنظم العمل والعاملين . ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفوض من ربه بالبلاغ وبالتشريع . { ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم … } [ الأنفال : 24 ] . ونجد هنا أيضاً أن الحق تبارك وتعالى قال : { إِذَا دَعَاكُم } ولم يقل : إذا دعَوَاكُمْ ، وفي ذلك توحيد للغاية ، فلم يفصل بين حكم الله التشريعي وبلاغ الرسول لنا . ونعلم أن الأشياء التي حكم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً ثم عدّل الله له فيها الحكم ، هذا التعديل نشأ من الله ، وهو صلى الله عليه وسلم لم ينشىء حكماً عدّله الله تعالى إلا فيما لم يُنزِل الله فيه حكماً . وحين ينزل الله حكماً مخالفاً لحكم وضعه الرسول ، فمن عظمته صلى الله عليه وسلم أنه أبلغنا هذا التعديل ، وهكذا جاءت أحكامه صلى الله عليه وسلم إذا وافقت حقّاً فلا تعديل لها ، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو صلى الله عليه وسلم يعدل لنا . وبذلك تنتهي كل الأحكام إلى الله تعالى . فإذا قال قائل : كيف تقول إن قول الرسول يكون من الله ؟ نجيب : إنه سبحانه القائل : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] . و " الهوى " - كما نعلم - أن تعلم حكماً ثم تميل عن الحكم إلى مقابله لتخدم هوى في نفسك ، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما عمد إلى أي حكم شرعه ولم يكن عنده حكم من الله عز وجل ، فإن جاءه تعديل أبلغنا . إذن ما ينطق عن الهوى . أي من كل ما لم ينزله الله ، وحكم فيه صلى الله عليه وسلم ببشريته ، ولم يكن له هوى يخدم أي حكم ، ونجد في قول الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم … } [ الأنفال : 24 ] . أنَّ كلمة " دعاكم " مفردة ، مثلها مثل كلمة " يرضوه " في قوله لكم : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 62 ] . ومثلها مثل الضمير في " عنه " في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ … } [ الأنفال : 20 ] . وفي هذه الآيات الكريمة توحيد للضمير بعد المثنى ، وهذا التوحيد كان مثار شبهة عند المستشرقين ، فقالوا : كيف يخاطب اثنين ثم يوحدهما ؟ ونقول لمن يقول ذلك : لأنك استقبلت القرآن بغير ملكة العربية . فلم تفهم ، ولو وجد الكفار في أسلوب القرآن ما يخالف اللغة لما سكتوا ، فهم المعاندون ، ولو كانوا جربوا في القرآن كلمة واحدة مخالفة لأعلنوا هذه المخالفة . وعدم إعلان الكفار عن هذه الشبهات التي يثيرها الأعداء ، يدل على أنهم فهموا مرمى ومعنى كل ما جاء بالقرآن ، وهم فهموا - على سبيل المثال - الآية التي يكرر المستشرقون الحديث عنها ليشككوا الناس في القرآن الكريم ، وهي قول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . وتساءل المستشرقون - مستنكرين - : كيف يتحدث القرآن عن طائفتين ، ثم يأتي الفعل الصادر منهما بصيغة الجمع ؟ . ونقول : إن " طائفتان " هي مثنى طائفة ، والطائفة لا تطلق على الفرد ، إنما تطلق على جماعة ، مثلما نقول : المدْرَسَتان اجتمعوا وصحيح أن المَدْرسة مفرد . لكن كل مدرسة بها تلاميذ كثيرون ، وكذلك " طائفتان " ، معناها أن كل طائفة مكونة من أفراد ، وحين يحدث القتال فهو قتال بين جمع وجمع لذلك كان القرآن الكريم دقيقاً حين قال : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } . ولم يقل القرآن الكريم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا لأن هذا القول لا يعبر بدقة عن موقف الاقتتال لأنهم كطائفتين ، إن انتهوا فيما بينهم إلى القتال . فساعة القتال لا يتحيز كل فرد لفرد ليقاتله ، وإنما كل فرد يقاتل في كل أفراد الطائفة الأخرى ، وهكذا يكون القتال بين جمع كبير من أفراد الطائفتين . وبعد ذلك يواصل الحق تبارك وتعالى تصوير الموقف من الاقتتال بدقة فيقول سبحانه : { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا … } [ الحجرات : 9 ] . وهنا يقول سبحانه وتعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، ولم يقل : أصلحوا بينهم . وهكذا عدل عن الجمع الذي جاء في الاقتتال إلى المثنى لأننا في الصلح إنما نصلح بين فئتين متحاربتين ، ونحن لا نأتي بكل فرد من الطائفة لنصلحه مع أفراد الطائفة الأخرى . ويمثل كل طائفة رؤساؤها أو وفد منها ، وهكذا استخدم الحق المثنى في مجاله ، واستخدم الجمع في مجاله ، وسبحانه وتعالى منزه عن الخطأ . وهنا في الآية التي ما زلنا بصدد خواطرنا عنها وفيها يقول المولى سبحانه وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . } [ الأنفال : 24 ] . وفي أولها نداء من الله للمؤمنين ، والنداء يقتضي أولاً أن يكون المنادى حيّاً لأنه سبحانه وتعالى القائل : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } [ فاطر : 22 ] . إذن : كيف يقول سبحانه لمن يخاطبهم وهم أحياء : { دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ . وهنا نقول : ما هي الحياة أولاً ؟ . نحن نعلم أن الحياة تأخذ مظهرين ، مظهرَ الحسّ ومظهرَ الحركة ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن توجد الروح في المادة فتتكون الحياة ، وهذه مسألة يتساوى فيها المؤمن والكافر . وثمرة الحياة أن يسعد فيها الإنسان ، لا أن يحيا في حرب وكراهية وتنغيص الآخرين له وتنغيصه للآخرين ، والحياة الحقيقية أن يوجد الحسّ والحركة ، شرط أن تكون حركة كل إنسان تسعده وتسعد من حوله ، وبذلك تتآزر الطاقات في زيادة الإصلاح في الأمور النافعة والمفيدة ، أما إذا تبددت الطاقات الناتجة من الحسّ والحركة وضاعت الحياة في معاندة البعض للبعض الآخر ، فهذه حياة التعب والمشقة ، حياة ليس فيها خير ولا راحة . وهذا ما يخالف ما أراده الحق سبحانه وتعالى للخلق ، فقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة له في الأرض ليصلح لا ليفسد ، وليزيد الصالح صلاحاً ، ولا تتعاند حركة الفرد مع غيره لأن كل إنسان هو خليفة لله ، وما دمنا كلنا خلفاء لله تعالى في الأرض . فلماذا لا نجعل حركاتنا في الحياة متساندة غير متعاندة ؟ وعلى سبيل المثال : إن أراد إنسان أن يخدم نفسه ومن حوله بحفر بئر ، هنا يجب أن يتعاون معه جميع من سوف يستفيدون من البئر فمجموعة تحفر ، ومجموعة تحمل التراب بعيداً ، ليخرج الماء ويستفيد منه الجميع ، لكن أن يتسلل إنسان ليردم البئر ، فهذا يجعل حركة الحياة متعاندة لا متساندة . وقد نزل المنهج من الله عز وجل ليجعل حركة الحياة متساندة لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] . والنداء هنا من الله للمؤمنين فقط ، فإذا قال الله : يأيها الذين آمنوا استجيبوا لما آمنتم به فهو لم يطلب أن تستجيب لمن لم تؤمن به ، بل يطلب منك الاستجابة إذا كنت قد دخلت في حظيرة الإيمان بالله ، واهتديت إلى ذلك بعقلك ، وبالأدلة الكونية واقتنعت بذلك ، وصرت تؤمن أنه إذا طلب منك شيئاً فهو لا يطلب منك عبثاً بل طلب منك لأنك آمنت به تعالى إلهاً ، وربّاً ، وخالقاً ، ورازقاً ، وحكيماً ، وعادلاً . حين يأمرك من له هذه الصفات ، فمن الواجب عليك أن تستجيب لما يدعوك إليه . ولله المثل الأعلى نجد في حياتنا الأب والأم يراعيان المصالح القريبة للغلام ، ويأمره الأب قائلاً : اسمع الكلام لأني والدك الذي يتعب من أجل أن تنعم أنت . وتضيف الأم قائلة له : اسمع كلام والدك ، فليس غريباً عنك ، بل لك به صلة وهو ليس عدوّاً لك ، وتجربته معك أنه نافع لك ويحب لك الخير ، هنا يستجيب الابن . وكلنا عيال الله ، فإذا ما قال الله : يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول المُبَلِّغ عن الله لأنه سيدعوكم لما يحييكم فعلينا أن نستجيب للدعوة . الداعي - إذن - هو الله تعالى وقد سبقت نعمه عليك قبل أن يكلفك ، وهو سبحانه قد أرسل رسولاً مؤيداً بمعجزة لا يستطيع واحد أن يأتي بها ، ويدعو كل إنسان إلى ما فيه الخير ، ولا يمنع الإنسان من الاستجابة لهذا الدعاء إلا أن يكون غبياً . ونلحظ في حياتنا اليومية أن الإنسان المريض ، المصاب في أعز وأثمن شيء عنده وهو عافيته وصحته ، وهو يحاول التماس الشفاء من هذا المرض ويسأل عن الطبيب المتخصص فيما يشكو منه ، وهناك لكل جزء من الجسم طبيب متخصص ، فإذا كان له علم بالأطباء فهو يذهب إلى الطبيب المعين ، وإن لم يكن له علم فهو يسأل إلى أن يعرف الطبيب المناسب ، وبذلك يكون قد أدى مهمة العقل في الوصول إلى من يأمنه على صحته . فإذا ما ذهب إلى الطبيب وشخص له الداء وكتب الدواء ، في هذه اللحظة لن يقول المريض : أنا لا أشرب الدواء إلاَّ إن أقنعتني بحكمته وفائدته وماذا سيفعل في جسمي لأن الطبيب قد يقول للمريض : إن أردت أن تعرف حكمة هذا الدواء ، اذهب إلى كلية الطب لتتعلم مثلما تعلمت . وطبعاً لن يفعل مريض ذلك لأن المسألة متعلقة بعافيته ، وهو سيذهب إلى الصيدلية ويشتري الدواء ويسأل عن كيفية تناوله ، والمريض حين يفعل ذلك إنما يفعله لصالحه لا لصالح الطبيب أو الصيدلي . والرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعونا لما يحيينا به ، إنما يفعل ذلك لأن الله تعالى أَوْكَلَ له البلاغ بالمنهج الذي يصلح حالنا ، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة ، بعد أن تأتي الروح في المادة ، يواجه الإنسان ظروف الحياة من بعد ذلك إلى الممات . وهذه حياة للمؤمن والكافر . وقد يكون في الحياة منغصات وتمتلىء بالحركات المتعاندة ، وقد يمتلىء البيت الواحد بالخلافات بين الأولاد وبين الجيران ، ويقول الإنسان : هذه حياة صعبة وقاسية . والموت أحسن منها . والشاعر يقول : @ كفى بك داء أن ترى الموت شافياً @@ وشاعر آخر يقول : @ ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش أخف منه الحِمام @@ والحِمام هو الموت ، وكأن الموت - كما يراه الشاعر - أخف من الحياة المليئة بالمنغصات . إذن فليس مجرد الحياة الأولى هو المطلوب ، بل المطلوب حياة خليفة يأتي في مجتمع خلفاء لله في الأرض . وكل منا موكل بالتعاون وإصلاح المجال الذي يخصه . ولا يصح للوكلاء أن يتعاندوا مع بعضهم البعض ، بل عليهم أن يتفقوا لأنهم وكلاء لواحد أحد . كذلك خلف الله الإنسان ، خلفه خليفة له في الأرض وأنجب الخليفة خلفاء ليؤدوا الخلافة بشكل متساند لا متعاند . إننا - على سبيل المثال - حين نرغب في تفصيل جلباب واحد ، نجد الفلاح يزرع القطن ، والغزّال يغزله ، والنسّاج ينسجه ، ومن بعد ذلك نشتريه لنذهب به إلى الخيّاط الذي يأخذ المقاسات المناسبة للجسم ، ثم يقوم بحياكة الجلباب على آلة اشتراها بعد أن صنعها آخرون . إذن فجلباب واحد يحتاج إلى تعاون بين كثير من البشر ، هكذا تتعاضد الحياة . وإذا نظرنا إلى العالم الذي نحيا فيه نجده مليئاً بالتعب ، خصوصاً الأمم المتخلفة ، وأيضاً نجد التعب في الأمم المتقدمة لأننا نجد صعاليك من أية دولة يصعدون إلى طائرة تتبع دولة كبرى ويهددون بتفجير الطائرة بمن فيها ويفرضون الشروط ، وَيُزِلُّون الدولة الكبرى . إذن فالحياة حتى في الدول الراقية متعبة . وعلى سبيل المثال : الحروب التي قامت في منطقتنا منذ عام 1948 مع إسرائيل واستمرت كل هذه المدة الطويلة ، ثم الحرب الأهلية في لبنان ، ثم الحرب التي دارت بين العراق وإيران هذه الحروب تكلفت المليارات التي لو استخدمت في وجه آخر لرفعت من شأن تقدم بلادنا . إذن الذي يتعب العالم هو الحركة المتعاندة ، والحق سبحانه وتعالى أنزل لنا المنهج القويم ليجعل حركة حياتنا متساندة . فإن اتبعنا المنهج صرنا نأخذ الأوامر من إله واحد ، وصار كل منا مكلفاً بالتعاون مع غيره ، وهذا لن يحدث إلا إذا استجبنا لما يدعونا الله تشريعاً والرسول بلاغاً ، وبهذا تتساند الحياة وتصبح حياة لها طعم . وينطبق عليها قول الحق تبارك وتعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] . أمَّا من يحيا بغير منهج فتكون حالته كما يبينها قول الله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 124 ] . وعلى هذا : فالعقاب على عدم اتباع المنهج الإلهي لا يتأخر إلى يوم القيامة ، ولكن الحياة في الدنيا تكون مرهقة ، والمعيشة ضنكا . إذن إياكم أن تفهموا أن المنهج الديني لله غايته الآخرة فقط ، لا . بل إن اتباع المنهج الديني لله جزاؤه في الآخرة ، وأما ثمرته ففي الدنيا . فمن يوفق في هذه الدنيا ، وحركته متساندة مع غيره ، يعطي له الله الجزاء في الحياة المستريحة في الدنيا بالإضافة إلى جزاء الآخرة . وهكذا نفهم أن موضوع الدين هو الدنيا ، أما الآخرة فهي جزاء على هذا الاختبار الدنيوي . وقوله سبحانه وتعالى : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] . أي يعطيكم منهجاً من إله واحد لا يعود بالخير عليه ولا على المبلغ عنه وهو الرسول ، وإنما يعود بالخير عليكم أنتم ، وتلك هي حيثيات الاستجابة ، ومن لا يستجيب لهذه فهو الأحمق . { ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] . إذن فالخير يأتي من أمر إله واحد فلا يجعل كل منا إلهه هواه ، حتى لا تتعدد الأهواء : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ … } [ المؤمنون : 71 ] . ولذلك لا يتعرض التشريع من الله سبحانه وتعالى إلا ما للأهواء فيه مدخل ، أمَّا الشيء الذي ليس للأهواء فيه مدخل فهو يترك الإنسان ليواجهه بملكاته التي خلقها الله له ، والشرع يتدخل فقط فيما يمكن أن يخضع للهوى ، أما الأمور التي لا تخضع للهوى فألد الأعداء يتفقون فيها . والحياة الآن فيها موجة ارتقاء طموحي علمي ، وهذا الطموح العلمي نشأ عن التجربة في المعمل حيث يجلس العلماء الوقت الطويل ليخترعوا ويطوروا ، مثال ذلك : " أديسون " الذي قضى وقتاً طويلاً ليخترع المصباح الكهربي ، وغيره من العلماء طوروا مخترعاته وجاءوا باختراعات جديدة ، ولم ندر عنهم شيئاً إلا أننا نفاجأ بمخترع قد أتى منهم ، والعالمُ من هؤلاء تجده أشعث أغبر ، لا يفكر في العناية بحسن مظهره وقد لا يأكل ولا يشرب ، ولا تدري أنت به إلا إذا الثمرة من عمله واختراعه جاءت ، ويقال : فلان اخترع الشيء " الفلاني " . وتنتفع أنت بما اخترع رغم أنك لم تَشْقَ شقاءَه حين أخذت الخير الناتج منه . ونرى المعسكرات المتضادة في عالمنا المعاصر تحاول أن تسرق تجارب غيرها في العلوم ، وهذه المعسكرات تختلف فقط في الأهواء ، فذلك شيوعي ، وآخر رأسمالي ، وثالث وجودي . الخلاف - إذن - في الأهواء غير المحكومة بالمادة أو بالتجربة . ومن المؤسف حقاً أن ما اتفقنا عليه كالعلوم المادية الكونية التي هي وليدة التجربة ، هذه المخترعات نستعملها في فرض ما نختلف فيه ، وهكذا تجد أن التعب في العالم إنما يأتي من الطموح الأهوائي لا الطموح المادي العلمي لذلك يتدخل الشرع في الأهواء ويحسمها ليكون كل منا عبداً لله تعالى ، وكل منَّا حر أمام غيره . والرسول صلى الله عليه وسلم بمنهجه الذي جاء به من الله يدعو الحيَّ - صاحب الحس والحركة - إلى أن تكون حياته حياة طيبة ليس فيها ضنك هذا إن نظرنا إلى كيفية الحياة . فإن قسنا الحياة بعمر الآخرة ، فهي لا تساوي إلا القليل لأن ما لا نختلف فيه كأفراد في الخلافة يجب أن يكون غاية للخلفاء ، فربنا قد يخلق واحداً ليموت في بطن أمه ، وواحداً يموت بعد ساعة من مولده ، وثالثا يموت بعد شهر من ميلاده ، ومنا من يعمر مائة سنة ، ولا يمكن أن يكونَ الأمر المُخْتَلَف فيه غاية للمتحدين في الجنس ، فالغاية أن نعمر الدنيا بالعمل الصالح لنسعد بها ، ونعبر منها إلى ما هو أجمل وهي الآخرة ، ومأمون فيها أننا لا نموت ، ومأمون فيها أننا لن نتعب أبداً ، لأنه كلما اشتهيت شيئاً ستجده أمامك . وهذه قمة الحياة الطيبة . وعلى فرض أنك ستتعب في سبيل منهج الله حين تبلغه للناس ، دفاعاً عنه بالحرب والقتال وبالتضحية بالأموال ، فأنت رابح لحياة طيبة أبدية ، ويبين القرآن الكريم لنا هذه الحياة في قول الحق تبارك وتعالى : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . فالدار الآخرة ليست مجرد حياة ، بل أكبر من حياة لأن حياتك الدنيا موقوتة ومحددة ، ونعيمك فيها على قدر إمكانياتك وتصوراتك ، ولكن الحياة الأخرى ليست موقوته بل ممتدة ، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات خالقك المنعم القادر . وهكذا نتأكد أنه صلى الله عليه وسلم قد دعانا إلى ما يحيينا . والحق سبحانه وتعالى حينما دعانا إلى الحياة الطيبة سمى المعيشة في منهجه حياة ، لأنها حياة سعيدة ، وتسلم إلى حياة خالدة . ولذلك سمى الحياة الأولى التي تأتي إذا نفخ الله الروح في المادة ، وقال عن آدم وكل بني آدم : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي … } [ ص : 72 ] . وأعطى الله سبحانه وتعالى هذه الحياة للمؤمن والكافر . وسمى سبحانه وتعالى ما يحمل المنهج للناس وهو القرآن روحاً : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا … } [ الشورى : 52 ] . والمنهج - إذن - روح من أمر الله سبحانه وتعالى نزل به الروح الأمين ، وهذه هي الحياة المطلوبة لله سعادة ، وتسانداً ، وخلوداً في الجنة . ولذلك أنزل المنهج ليمنع التعاند والتعارض والتضاد بين المؤمنين ، وليحمي كل مؤمن نفسه من الزلل ، فيقاوم المعصية وهي صغيرة قبل أن تكبر وتستفحل . ثم يقول المولى سبحانه وتعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] . وماذا يعني قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؟ . وأقول : إياك أن تظن أن الكافر - على سبيل المثال - يعلن أن قلبه قد انعقد على الكفر لأنه قد يجرب أن يخلع نفسه من هواه وينظر إلى حقيقة الإيمان فيقتنع به ، ولن يسيطر على هواه ، وقد انقلب أكثر من قلب شرير إلى قلب خير ، مثل صناديد قريش من الكفار الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت قلوبهم معقودة على الشر ، لكنها لم تستمر على الشر ، بل حال الحق بين كل إمرىء منهم وقلبه . والقلب هو محل التمنيات والأماني ، وأول الأماني أن تطول حياة الإنسان ، خصوصاً وهو يرى أن من في مثل عمره يموت ، ومن في مثل عمر والده يموت . وأن جده يموت ، ولأن الإنسان يحب أن تطول حياته ، يرغب في أن ينجب ولداً ليمتد ذكره ، إنه يريد الحياة ولو من غيره ، ما دام منسوباً له . كما أن الإنسان يحب الآمال ، ويبني في أحلامه الكثير مما يريد أن يحققه ، والواجب عليه ألاَّ ينسى أن لهذا الكون إلهاً قادراً ، قد ينهى حياة أي منا رغم أن كل إنسان يحلم أن تطول حياته ، وقد يقف بين الإنسان وبين آماله التي يريد أن يحققها ، ولا أحد منا معزول عن خالقه ، وكل منا في يد الخالق ، وسبحانه وتعالى لم يخلق الخلق ثم يترك النواميس لتعمل دون إرادته ، بل كل النواميس في يده . وما دام الحق يحول بين المرء وتمنيات قلبه استطالة حياة ، وتحقيق آمال ، وستراً للموت وأسبابه وزمنه ، كل ذلك لنتجه دائماً إلى فعل الخير لنحيا في ضوء المنهج وأنت لا تعرف متى ينتهي الأجل ، وإلى الله المصير . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ … } .