Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 74-74)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي إياكم أن تقولوا بأنهم لم يهاجروا معكم . وتنكرون أنهم منكم . بل هم منكم وأولياؤكم فهم قد اتبعوكم بإحسان . وما الذي جعل الحق سبحانه وتعالى يذكر هذا مرة أخرى ؟ . لقد تكلم سبحانه وتعالى عن الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل الله والذين نصروا ، ولننتبه إلى أن هذا ليس تكراراً لأنه سبحانه وتعالى يذكر لنا هنا أنهم جاهدوا بالمال والنفس . وقد جاءت هذه الآية لتثبيت الحكم الشرعي . وانظر إلى عجز كل آية لتعرف . ففي عجز هذه الآية : { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 74 ] . والحكم الشرعي بالنسبة لهم هو أن يكونوا أولياء بعض ، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة حيث يقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] . أي أعطانا الحكم الشرعي في ولاية بعضهم لبعض . وأوضح أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أولياء ، وهذا هو الحكم المطلوب منهم ، ولكنه سبحانه في هذه الآية الكريمة : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . فلم يتكلم الحق سبحانه وتعالى هنا عن الولاية ولم يعط حكماً بها ، وإنما قال سبحانه وتعالى : { هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } وهذا حصر يسمونه قصراً ، أي أن غيرهم لا يكون مؤمناً حقاً ، مثلما تقول : فلان هو الرجل ، يعني أن غيره لا تعد رجولته كاملة من كل نواحيها . وهذه مبالغة إيمانية . ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله الكريم : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 74 ] . وهنا يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجزاء . والجزاء إما أن يكون في الدنيا ، ولذلك حكم الله لهم بأنهم هم المؤمنون حقا ، وإما أن يكون الجزاء في الآخرة . وجزاء الآخرة يمحو السيئات ويرفع الدرجات فقوله : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ } [ الأنفال : 74 ] أي تمحي سيئاتهم . وقوله تعالى : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 74 ] أي تضاعف لهم الحسنات في الجنة . فكأن الآية الأولى كان مقصوداً بها حكم الولاية . وهو حكم مطلوب منهم . والآية الثانية تكلمت عن الجزاء وبينت جزاءهم في الدنيا والآخرة . والجزاء في الدنيا أنهم هم المؤمنون حقاً ، أمَّا الجزاء في الآخرة فهو محو الذنوب حتى لا يعاقبوا . ورفع درجاتهم بإعطائهم الثواب وهو رزق كريم . والمغفرة لهم على قليل الذنوب لأنه لا يوجد أحد بلا كبوة في شيء من الأشياء ولا أحد معصوم مثل الرسل فهم وحدهم الذين عصمهم الله من الوقوع في المعاصي ، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يغفر - لمن ذكرهم في هذه الآية - النزوات الصغيرة ، ولهم رزق كريم أيضاً . والرزق هو ما انتفع به الإنسان ، وإن كان الناس ينظرون إلى الرزق على أنه المادة فقط من مال وأرض وعقار وطعام ولباس ، ولكنَّ الحقيقة أن الرزق مجموع أشياء متعددة منها ما هو مادي وما هو معنوي . فالاستقامة رزق ، والفضيلة رزق ، والعلم رزق ، والتقوى رزق ، وكلما امتد نفع الرزق يوصف بأنه حسن وجميل . وهنا وصف الحق الرزق بأنه كريم . والكرم هو مجموع الأشياء التي فيها محاسن . وإذا جاء الرزق بلا تعب يكون كريماً ، فالهواء رزق لا عمل لك فيه يمر عليك فتتنفس ، والماء رزق لا عمل لك فيه لأنه يهبط عليك من السماء ، والطعام رزق لك فيه عمل قليل ، فأنت بذرت ورويت وانتظرت حتى جاء الثمر . إذن فهناك رزق لا عمل لك فيه مطلقاً وهو رزق في قمة الكرم ، وهناك رزق لك فيه عمل ضئيل وهو رزق كريم لأنه أكبر من العمل . وأنت حين تعطي إنساناً أجره ليس هذا مناً أو كرماً منك لأنه مقابل عمل ، ولكن الكرم أن تعطيه بلا مقابل . ورزق الجنة بلا مقابل لأنه بمجرد أن يخطر الشيء على بالك وتشتهيه تجده أمامك . إذن فهو رزق في قمة الكرم ، والحق سبحانه وتعالى قد جعل الكرم من صفات الرزق ، فالرزق يعرف عنوانك ومكانك وأنت لا تعرف عنوانه ولا مكانه لأنك قد تبذل جهداً كبيراً في زراعة أرضك ثم تأتي آفة وتصيب الزرع فلا يعطيك رزقاً . وقد تذهب إلى مكان وأنت خالي الذهن فتأتيك صفقة فيها رزق وفير . إذن فالرزق يعرف مكانك ويأتي إليك ولكنك لا تعرف أين هو . وقد حدد الله سبحانه وتعالى الرزق وقسمه على عباده ، وكل رزق مقسوم لك سيصل إليك ولن يذهب إلى غيرك ، وأنت قد تأكل طعاماً تلتذ به ثم يهيج معدتك فتفرغ معدتك منه ، ويأتي طائر ليلتقط بعضه هذا رزق الطائر تعافه أنت . وقد تأكل الطعام ويتحول إلى مكونات في دمك ثم تذهب تتبرع بهذا الدم إلى غيرك . إذن فهذا الطعام الذي أكلته وتحول إلى دم في جسدك ليس رزقك ولكنه رزق من نقل إليه الدم . ولذلك إذا قرأت القرآن تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [ النحل : 112 ] . والرزق يأتيك ولا تذهب أنت إليه ، وإذا كان الرزق قد ربط في الدنيا بأسباب العمل ، فالرزق في الآخرة يأتيك بلا عمل . ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ … } .