Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 102-102)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله الحق : { وَآخَرُونَ } معطوفة على قوله : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } ، فهل يظلون جميعاً على النفاق ، أم أن منهم من يثوب إلى رشده ليجد أن موقفه مخز حتى أمام نفسه ؟ لأن أول ما ينحط المنافق إنما ينحط أمام نفسه لأنه نافق ولم يقدر على المواجهة ، واعتبر نفسه دون من يواجهه فيحتقر نفسه ، ولا بد أن منهم من يأنف من هذا الموقف ، ويرغب في حسم المسـألة : إما أن يؤمن وإما أن يكفر ، ثم يرجح الإيمان ، ويتخلص من النفاق بأن يعترف بذنوبه . وبذلك يصبح ممن يقول الحق عنهم : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : ممن لم يُصِرّوا على النفاق ، واعترفوا بذنوبهم ، والاعتراف لون من الإقرار . والإقرار بالذنب أنواع ، فهناك من يقر بالذنب إفاقة ، وآخر يقر الذنب في صفاقة ، مثلما تقول لواحد : هل ضربت فلاناً ؟ فيقول : نعم ضربته ، أي أنه اعترف بذنبه ، وقد يضيف : وسأضرب من يدافع عنه أيضاً ، وهذا اعتراف فيه صفاقة . أما من يعترف اعتراف إفاقة ، فهو يقر بأنه ارتكب الذنب ويطلب الصفح عنه ، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله . وهم قد { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } اعتراف إفاقة ، بدليل أن الله قال فيهم : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } وعملهم الصالح هنا هو إقرارهم بالذنب ومعرفتهم أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة ، أما عملهم السيىء فهو التخلف عن الجهاد والإنفاق . واعترافهم هذا هو اعتراف الإفاقة ، واختلف العلماء : هل هذا الاعتراف يعتبر توبة أم لا ؟ نقول : إن الحق سبحانه وتعالى حينما قال : { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } ثم قوله : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : رجاء أن يتوب عليهم ، وهذه مقدمات توبة وليست توبة ، فإن صاحبها الندم على ما مضى ، والإصرار على عدم العودة في المستقبل فيُنظر هل هذا كان منه مخافة أن يُفضح أم موافقة لمنهج الله ؟ إن كان الأمر موافقة لمنهج الله فتكون التوبة مرجوَّة لهم . وكلمة { خَلَطُواْ } تؤدي معنى جمع شيئين كانا متفرقين ، وجمع الشيئين أو الأشياء التي كانت متفرقة له صورتان الصورة الأولى : أن يجمعهم على هيئة الافتراق ، كأن تأتي بالأشياء التي لا تمتزج ببعضها مثل : الحمص واللب والفول ، وتخلط بعضها ببعض في وعاء واحد ، لكن يظل كل منها على هيئة الانفصال ، فأنت لم تدخل حبة اللب في حبة الحمص ، ولم يتكون منهما شيء واحد لأنه لو حدث هذا لصار مزيجاً لا خلطاً ، مثلما تخلط الشاي باللبن لأنك بعد أن تجمعهما يصيران شيئاً واحداً ، بحيث لا تستطيع أن تفصل هذا عن ذاك . إذن : فهم حين خطلوا العمل الصالح والعمل السَّيِّئ ، لم يجعلوا من العمل الصالح والعمل السَّيِّئ مزيجاً واحداً . لكن العمل الصالح ظل صالحاً ، والعمل الفاسد ظل فاسداً . وقوله سبحانه : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } كلمة { عَسَى } معناها الرجاء وهو ترجيح حصول الخير . وهو لون من توقع حصول شيء محبوب . والرجاء يخالف التمني لأن التمني هو أن تحب شيئاً وتتمنى أن يكون موجوداً ، لكنه لا يأتي أبداً ، مثل قول الشاعر : @ ألا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً فَأخبِرُه بِمَا فعلَ المشِيبُ @@ إنه قد تمنى أن يعود شبابه ، وهذا دليل على أن فترة الشباب محبوبة ، لكن ذلك لا يحدث . إذن : فإظهار الشيء المحبوب له لونان : لون يتأتى ، ولون لا يتأتى ، فالذي يتأتى اسمه رجاء ، والذي لا يتأتى نسميه التمني ، مثل قول الشاعر : @ لَيْتَ الكَوَاكِب تَدْنُو لِي فَأنظِمَهَا عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَى لَكُمْ كَلمَا @@ فالشاعر يتمنى حدوث ذلك ، ولكنه لن يحدث . أما الرجاء فهو أمل يمكن أن يحدث ، والرجاء له منازل ومراحل بالنسبة للنفس الإنسانية . فأنت عندما ترجو لواحد شيئاً فتقول : " عسى فلان أن يمنحك كذا " ، فأنت هنا مُترَجٍّ ، وهناك مترجّىً له ، هو من تخاطبه ، ومترجّىً منه ، وهو من يعطي ، فهذه ثلاثة عناصر . لكن ألك ولاية على من يمنح ؟ لا ، لكن إن قلت : عسى أن أمنحك أنا كذا ، فأنت ترجو لواحد غيرك أن تمنحه أنت ، وهذا أرجى أن يتحقق . وحين تقول : " عسى أن أمنحك " فقد تقولها في لحظة إرضاء للذي تتحدث معه . ثم قد يبلغك عنه شيء يغير من نفسك ، أو جئت لتعطيه ، فلم تجد ما تعطيه له ، هنا لم يتحقق الرجاء . لكن عندما تقول : " عسى الله أن يمنحك " ، فأنت ترجو له من الله ، وهو القادر على كل شيء ولا تؤثِّر فيه أغيار ، أما إذا قال الله عن نفسه : " عسى الله أن يفعل " ، فهذا أقوى وسائل الرجاء . إذن : فنحن أمام أربع وسائل للرجاء . أن تقول : " عسى فلان أن يمنحك " أو أن تقول : " عسى أن أمنحك أنا " ، أو تقول : " عسى الله أن يمنحك " وقد يجيبني الله ، أو لا يجيب دعائي ، لكن حين يقول الحق : " عسى أن أفعل " فهذا هو اللون الرابع من ألوان الرجاء ، وقالوا : الرجاء من الله إيجاب . { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ، فهذا رجاء أن يتوب الله عليهم ، أما توبة العبد فمسألة تقتضي الندم على ما فات ، والرجوع إلى منهج الله ، والعزم ألا يغضب الله في المستقبل . أما توبة الله فهي تضم أنواع التوبة ، فتشريع الله للتوبة رحمة بمن ارتكب الذنب ، ورحمة بالناس الذين وقع عليهم السلوك الذي استوجب التوبة . فإن تُبْتُ فقبول التوبة رحمة ثانية ، فلو لم يشرع الله التوبة لاستشرى كل من ارتكب ذنباً واصطلى المجتمع بشروره . لكن حين يشرع الله التوبة فهناك أمل أن يرجع العبد إلى الله ، ويتخلص المجتمع من إمكانية عودته للذنب ، وانتهى هو من أن يوقع مصائب بغيره . فإذا قَبِلَ الله التوبة ، يقال : " تاب الله على فلان " ، فلله إذن أكثر من توبة ، ولذلك حين تقرأ قوله الحق : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ … } [ التوبة : 118 ] . أي : شرع لهم التوبة ليتوبوا ، فإذا تابوا فسبحانه قابل التوب . إذن : فالتوبة ثلاث مراحل : تشريع للتوبة ، ثم توبة واقعة ، فقبول للتوبة . والتوبة رجوع عن شيء ، وهي بالنسبة للعبد رجوع عن ذنب ، وبالنسبة لله إن كان الذنب يستحق أن يعاقب الله به ، فإذا تبت أنت ، فالحق يعفو ويرجع عن العقوبة . ويُنهي الحق الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لأن المغفرة بالنسبة للعبد صعبة ، فإن سرق واحد منك شيئاً فهو يضرك ، ويلحّ عليك حب الانتقام منه لأن الضرر أتعبك ، لكن أيُتْعبُ أحد ربه بالمعصية ؟ لا لأنك إن كنت قد أضررت بأحد فإنما أضررت بنفسك ، ولم تضر الله سبحانه لأنه سبحانه لا يلحقه ضرر بذنبك ، وإنما الذنب لحقك أنت . فحين يقول سبحانه : { غَفُورٌ } فهو غفور لك ، و { رَّحِيمٌ } بك . والمصائب أو الكوارث نوعان نوع للإنسان فيه غريم ، ونوع يصيب الإنسان ولا غريم له . فإن مرض إنسان فليس له غريم في المرض ، أما إذا سرق إنسان فاللص هو غريمه ، ومصيبة الإنسان التي فيها غريم تدفع النفس إلى الانفعال برد العقوبة إليه ، أما حين تكون المصيبة من غير غريم فهي تحتسب عند الله ، ويقال : إن المصيبة التي ليس فيها غريم هي التي تحتاج لشدة إيمان ، والحق يقول : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . هنا يؤكدها لأن غريمه يلح عليه ، فساعة يراه يتذكر ما فعله غريمه به ، فتكون هناك إهاجة على الشر . أما قوله سبحانه : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] . فلم يؤكدها ، فالمصيبة هنا من سيكون غريمه فيها ؟ والذين اعترفوا بذنوبهم هم قوم تخلفوا بغير عذر ، ثم جاءوا وقالوا : ليس لنا عذر ، ولم يختلقوا أعذاراً لأننا نعلم أن هناك أناساً لم يعتذروا ، وأناساً آخرين اعتذروا بأعذار صادقة ، وآخرين اعتذروا باعتذارات كاذبة ، وهم قد { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : أعلنوا أن اعتذاراتهم عن الغزوة لم تكن حقيقية وأنه لم يكن عندهم ما يبرر تخلفهم عن الغزو فهؤلاء تاب الله عليهم في نفوسهم أولاً ، ورسول الله لا يزال في الغزوة في تبوك التي تخلفوا عنها . ثم " عاد الرسول من الغزوة ، ودخل المسجد كعادته حين يرجع إلى المدينة ، وأول عمل كان يعمله بعد العودة هو أن يدخل المسجد ، ويصلي فيه ركعتين . فوجد أناساً قد ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وهي الأعمدة فسأل عن هؤلاء ، فقالوا : هؤلاء قوم تخلفوا وكانت أعذارهم كاذبة لكنهم اعترفوا بذنوبهم ، وقد عاهدوا الله ألا يحلوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تحلهم وترضى عنهم فقال صلى الله عليه وسلم : " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " فلما أنزل الله هذه الآية حلهم رسول الله ومنهم : أبو لبابة . ولذلك من يذهب ليزور المدينة إن شاء الله ، سيجد أسطوانة اسمها " أسطوانة أبي لبابة " وهو أول من ربط نفسه على الساري ، وقلده الآخرون . وهذا يدلك على أن المؤمن حين تختمر في نفسه قضايا الإيمان فهو لا ينتظر أن يعاقب من الله ، بل يبادر هو إلى أن يعاقب نفسه . ومثال ذلك : المرأة التي زنت ، والرجل الذي زنا ، واعترفا لرسول الله ليرجمهما ، ومعنى ذلك أنهما لم ينتظرا حتى يعذبهما الله ، بل ذهب كل منهما بنفسه . ولذلك حين جاء سيدنا عمر ، وكاد أن يركل جثة أحدهما قال الرسول : " دعها يا عمر فقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم " . وكون أبي لبابة يربط نفسه بالسارية ، فهذا يدل على أن المؤمن إذا اختمرت في نفسه قضية الإيمان ، فإنه لا يترك نفسه إلى أن يلقاه الله بعذابه ، بل يقول : لا ، أنا أعذب نفسي كي أنجو من عذاب الله ، فهو قد تيقن أن هناك عذاباًَ في الآخرة أقسى من هذا العذاب . فلما اعترفوا بذنوبهم وراجعوا أنفسهم متسائلين : ما الذي شغلنا عن الغزو ، وجعلنا نعتذر بالكذب ؟ وجدوا أنهم في أثناء غزوة تبوك وقد كانت في الحر ، وفيه كانت تطيب جلسات العرب تحت الظلال وأن يأكلوا من التمر . فقالوا : والله ، إن المال هو الذي شغلنا عن الغزو وجعلنا نرتكب هذا الذنب ، ولا بد أن نتصدق به لذلك قلنا : إن هذه لم تكن الصدقة الواجبة ، بل هي صدقة الكفارة . وهؤلاء قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : خذ هذا المال الذي شغلنا عن الجهاد ، فلم يقبل حتى ينزل قول من الله ، فأنزل الحق قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً … } .