Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 104-104)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

و { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } مكونة من ثلاث كلمات هي : همزة استفهام ، " لم " حرف نفي ، و " يعلم " وهو فعل . فهل يريد الله هنا أن ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم ؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها " همزة الاستفهام الإنكاري " والإنكار نفي ، فإذا دخل نفي على نفي فهو إثبات ، أي " فليعلموا " . ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر ؟ نقول : إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا ، وبدلاً من أن يكون الأمر إخباراً من الله ، يكون إقراراً من السامع . { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ } لماذا جاء الحق بكلمة { هُوَ } ، وكان يستطيع سبحانه أن يقول : " ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة " ولن يختل الأسلوب ؟ أقول : لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل ، مثلما نقول : فلان يستطيع أن يفعل لك كذا . وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل ، لكن حين تقول : فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا . فهذا يعني أنه لا يوجد غيره . وهذا هو ضمير الفصل الذي يعني الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة . لذلك قال الحق : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ … } [ التوبة : 104 ] . وهل كانت هناك مظنة أن أحداً غير الله يقبل التوبة ؟ لا . بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله ، ولا نتوب إلى رسول الله . ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن ، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 70 - 77 ] . ولم يقل سيدنا إبراهيم : " إنهم أعداء " ، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ } . و { إِنَّهُمْ } - كما نعلم - جماعة ، ثم يقول بعدها { عَدُوٌّ } وهو مفرد ، فجمعهم سيدنا إبراهيم وكأنهم شيءٌ واحد . وكان بعضٌ من قوم إبراهيم يعبدون إلهاً منفرداً ، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام ويقولون : إنهم شركاء للإله . إذن : كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين . ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء ، فقول إبراهيم قد يُفسر على أن الله داخل في العداوة لذلك استثنى سيدنا إبراهيمُ وقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } ، أي : أن الله سبحانه ليس عَدُوّا لإبراهيم عليه السلام ، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام . أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله ، أي : لا يعبدون الله ، لم يكن إبراهيم ليستثنى . والاستثناء هنا دليل على أن بعضاً من قومه هم الذين قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ … } [ الزمر : 3 ] . وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } وهذا كلام دقيق محسوب . وأضاف : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . ولم يقل : " الذي خلقني يهديني " ، بل ترك " خلقني " بدون " هو " وخَصَّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال : { فَهُوَ يَهْدِينِ } لأن " هو " لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكاً له ، أما مسألة الخلق فلا أحدٌ يدّعي أنه خلق أحداً . فالخلق لا يُدَّعى ، ولذلك لم يقل " الذي هو خلقني " . والحق سبحانه هو القائل : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزخرف : 87 ] . فليس هناك خالق إلا هو سبحانه . إذن : فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير . لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله ، فهو يخصَّص بـ " هو " تأكيداً على تخصيصه لله وحده { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة لأن أحداً لم يدّع أنه خلق أحداً ، فمجيء الاختصاص - إذن - كان في مجال الهداية بمنهج الحق ، لا بقوانين من الخلق . فمن الممكن أن يقول بشر : أنا أضع القوانين التي تسعد البشر ، وتنفع المجتمع ، وتقضي على آفاته ، ونقول : لا ، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه . إذن : فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه هو ، أما ما يمكن أن يُدَّعَى فتأتي فيه هو . وقوله سبحانه : { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] . وجاء هنا أيضاً بضمير الفصل لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله لذلك جاء بـ { هُوَ } ، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك ، لانتهيت إلى مالم يأت به الأب لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي إلى ما ليس للبشر فيه أسباب ، فكل شيء من الله لذلك قال سيدنا إبراهيم : { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 79 - 80 ] . وخصص الشفاء أيضاً حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي ، وينسى أن الله وحده هو الشافي ، أما الطبيب فهو معالج فقط ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنساناً لطبيب ، فيموت بين يدي الطبيب ولذلك يقول الشاعر عن الموت : @ إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ أوْ لم يَنَمْ فالطِّبُّ مِن أذنَابِه @@ فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض ، فيموت بسببه هذا المريض . وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه . ثم يقول سيدنا إبراهيم : { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي … } [ الشعراء : 81 ] . ولم يقل : " هو " يميتني لأن الموت مسألة تخص الحق وحده ، وقد يقول قائل : كان يجب أن يقول : " هو يميتني " ، ونقول : انتبه إلى أن إلا الموت غير القتل ، فالموت يتم بدون نقض للبنية ، والقتل لا يحدث إلا بنقض البنية ، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم : { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] . وأيضاً لم يقل : " هو يحييني " لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه ، فقد جاء بـ " هو " في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة ، وهو كلام بالميزان : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الشعراء : 82 ] . لم يأت أيضاً بـ " هو " لأن المغفرة لا يملكها إلا الله . إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون " هو " ، وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء بـ " هو " . وهنا يقول الحق : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } وظاهر الأمر أن يقال : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة " من " عباده ، ولكنه ترك " من " وجاء بـ " عن " . والبعض يقولون : إن الحروف تنوب عن بعضها ، فتأتي " من " بدلاً من " عن " . ونقول : لا ، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر لأن معنى التوبة ، أن ذنباً قد حدث ، واستوجب المذنب العقوبة ، فإذا قَبل الله التوبة ، فقد تجاوز الله عن العقوبة ولذلك جاء القول من الحق محدداً : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ } أي : متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة . وهكذا جاءت " عن " بمعناها لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة ، وهو الذي تجاوز عن العقوبة . ثم يقول سبحانه : { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } صحيح أن الله هو الذي قال للرسول : { خُذْ } ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط ، و " يأخذ " هنا معناها " يتقبل " واقرأ قول الحق : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ … } [ الذاريات : 15 - 16 ] . أي : متلقين ما آتاهم الله . ومثال هذا ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً ، والدرهم عملة من فضة . والفضة من المعادن التي لا تصدأ ، والفضة على أصلها تكون لينة لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئاً من الصلابة . والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد فتصدأ الفضة لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم . فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها : ما هذا ؟ قالت : إنه درهم . واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم ؟ فقالت : كأني رأيت أن أتصدق به ، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة . فعلت سيدتنا فاطمة ذلك لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة . { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ رسول الله الصدقات ، فإن توبتهم قد قُبلَتْ ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله ، والذي يأخُذ الصدقات هو الله لأنه هو التواب الرحيم لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ … } .