Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 110-110)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

البنيان الذي بنوا هو مسجد الضرار ، وأرادوا به ضرراً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدهم أن يصلي فيه ، وكشف له الحق أنهم أرادوا بصلاة رسول الله فيه ذريعة وأن يرسموا الصلاة فيه . ولما عاد صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أنزل الله عليه : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } وأرسل صلى الله عليه وسلم بعضاً من صحابته ليهدموا هذا المسجد ، ولم يكتف بالهدم ، بل أمر أن يُجْعَل مكان المسجد قمامة إشعاراً منه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية ، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية ، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية ، فكأنه طهر المكان من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسيّة . ورسول الله يعلمنا هنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسيّة ، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسيّة ، فالإنسان قد يتحرز من النجاسات الحسيّة ، لكن النجاسات التي تخامر القلوب والعقائد والعواطف فهي التي تسبب للإنسان الشقاء . وهنا يقول الحق : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } فبعد أن هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة ، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب ، وظلوا في شك من أن يصيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء ، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت . إن الشك والريبة محلها القلب ، والقلب هو العضو الثاني في استبقاء الحياة ، أما العضو الأول في استبقاء الحياة فهو المخ ، فما دامت خلايا المخ سليمة ، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة ، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة ، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض ، وقد يفلحون ما دامت خلايا المخ سليمة ، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله ، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بأقوى الصيانات بعظام الجمجمة . وكذلك النخاعات التي تتحكم في إدارة الجسد ، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة . ونرى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء ، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام ، وما دام المخ سيد الجسم سليماً فمن الممكن أن تستمر الحياة ، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم ، ويحافظ على صيانته . والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه ، وحين يفوته ميعاد تناوله للطعام ، يعرض عليه الطعام يقول : ليس لي رغبة في الأكل ، وهذا ليس إلاّ تعبيراً علمياً لما حدث في الجسم ، فأنت أكلت بالفعل ، فما دام قد مر ميعاد طعامك ولم تأكل فإن جسمك يأخذ ما يحتاجه من الدهون المخزونة به ، وإذا ما انتهى الدهن يأخذ الإنسان من لحمه ، وإذا ما انتهى اللحم يأخذ الإنسان غذاءه من عظامه ، وكل ذلك من أجل أن يبقى السيد وهو " المخ " مصاناً . ولذلك تجد القرآن حينما عرض مسألة سيدنا زكريا ، قال على لسانه : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي … } [ مريم : 4 ] . أي : أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء ، أما النبات فهو عكس الإنسان ، فسيد النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر ، ويحاول النبات المحافظة على جذره ، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه ، بدأت أوراق النبات في الذبول لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر ، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء ، فيعود الجذر قويّاً . والقلب هو محل العقائد والاعتقادات ، وهي الأشياء التي تنشأ من المحسّات ، وتتكون في الفؤاد لتصير عقائد لا تطفو للمناقشة من جديد ، أما العقل فهو يناقش كل المسائل ، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب . وهنا يوضح لنا الله أن هذا البنيان سيظل أثره في قلوبهم ، ولن ينتهي منهم أبداً إلا بشيء واحد هو : { أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } والقلوب لا تتقطع إلا بالموت ، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا . أو : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : أن تتقطع توبة وأسفاً وحزناً . وهذا تهديد لهم بأن مسيئاتهم ليست من الخارج ، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم . ووجود الريبة في نفوسهم ، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب . ثم يقول سبحانه : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية ، وحكمته سبحانه أنه يضع كل شيء في مكانه . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ … } .