Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 11-11)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه الآية الكريمة تؤكد لنا أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، وأن الباب مفتوح دائماً لتوبة المشركين والكافرين مهما كانت ذنوبهم ، وهكذا تكون رحمة الله تعالى . ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال : { فَإِن تَابُواْ } ولم يقل إذا تابوا ، لأنه لو قال : إذا تابوا تكون توبتهم مؤكدة ، ولكن قوله : { فَإِن تَابُواْ } فيها شك ، لأن ما فعلوه ضد الإيمان كثير ، والذي نأمله فيهم قليل ، ولكن التوبة تفترض أن يباشر التائب بعدها مهمته الإيمانية . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ … } [ التوبة : 11 ] . إذن فالمهمة الإيمانية بعد التوبة إنما تكون بشهادة أن " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وبطبيعة الحال لا بد من مباشرة الصلاة لأنها تجمع كل أركان الإسلام ، وهي عمل يومي ، وليست عملاً مطلوباً من الإنسان مرة واحدة كالحج ، وليست كالصوم ، فالصوم مدته شهر واحد من السنة . إذن لكي تتأكد التوبة فلا بد أن يؤدي التائب الصلاة في وقتها كل يوم فهي العمل اليومي الذي لا يؤجل ولا يتأخر عن وقته ، والصلاة قرنت غالباً بالزكاة في آيات القرآن الكريم لأن الزكاة تضحية بالمال ، والمال ناتج العمل ، والعمل ناتج الوقت ، والصلاة تضحية بالوقت ، فكأن الصلاة - كما قلنا - فيها زكاة . والحق سبحانه وتعالى يقول : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ التوبة : 11 ] . إنه لا بد أن نلاحظ في التفصيل هنا المراحل الإيمانية التي بينها الله عز وجل لنا المرحلة الأولى وهي تحمل الاضطهاد والصبر ، والمرحلة الثانية أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر ، وهذه حسمت محاولة الكفار تمييع قضية الإيمان بأن نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة ، وكانت هذه عملية مرفوضة تماماً الآن وفي المستقبل وحتى قيام الساعة . ثم جاءت مرحلة المعاهدات ثم نقض العهود ثم مهلة الأشهر الأربعة الحرم التي أعطيت للكافرين . وكل هذه مسائل مقننة ، ولم تكن الأمة العربية تعرف التقنينات . إذن فكل هذه التقنينات جاءت من السماء ، والتقنينات في الأمم تأخذ أدواراً طويلة ، ولا يوجد قانون بشري يولد سليماً وكاملاً ، بل كل قانون يوضع ثم تظهر له عيوب في التطبيق ، فيعدّل ويطور ويفسر ويحتاج إلى أساطين القانون الذين يقضون عمرهم كله في التعديلات والتفصيلات ، فكيف ترتب هذه الأمة العربية الأمية التي لم يكن لها حظ من علم ولا ثقافة كل هذه التقنينات ؟ . نقول : إنها لم ترتب ، وإنما رتب لها ربها الذي أحاط بكل شيء علماً ، فكل هذه المراحل التي مر بها الإيمان نزلت فيها تقنينات من السماء تبين للمؤمنين ما يجب أن يفعلوه . { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ . . } [ التوبة : 11 ] . ونحن عادة نعرف أخوة النسب ، فهذا أخي من أبي وأمي ، أو هذا أخي من الأب فقط ، أو هذا من الأم فقط ، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ … } [ يوسف : 58 ] . هذه أخوة النسب ، ونحن نعلم أن مادة الأخوة تأتي مرة لتعبر عن أخوة النسب ، وتأتي مرة كلمة " إخوان " لتعبر عن الأخوة في المذهب والعقيدة ، وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يرفع الإيمان إلى مرتبة النسب ، فقال عز وجل : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … } [ الحجرات : 10 ] . ليدلنا على أنهم ما داموا قد دخلوا معنا في حظيرة الإيمان فلهم علينا حق أخوة النسب فيما يوجد من تواد وتراحم ، وترابط وحماية بعضهم البعض دائماً ، وحب ووفاق إلى آخر ما نعرفه عن حقوق الأخوة بالنسب . ولكن نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ … } [ التوبة : 11 ] . ولم يقل إخْوتكم ، لماذا ؟ . نقول : ليس من المعقول أن يخرجوا من كل ما كانوا فيه من آثام بالتوبة ، ثم يصبحوا في نفس التو واللحظة إخوة ، لكن ذلك يحدث عندما يتعمق إيمانهم ، ويثبت صدق توبتهم حينئذ يصبحون إخوة . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ التوبة : 11 ] . كيف يكون التفصيل لمن يعلم ؟ . وما دام يعلم فلماذا التفصيل ؟ . ونقول : إن المعنى هنا أن الله سبحانه وتعالى يفصل الآيات لمن يريدون أن يعلموا العلم الحقيقي الذي يأتي من الله ، لأن هذا العلم له أثر كبير على مستقبل الإيمان ، ولذلك فغير المسلمين الذين يهتمون بدراسة الدين الإسلامي دراسة جادة للبحث عن العلم الحقيقي ينتهون إلى إعلان إسلامهم ، لأنهم ما داموا أهل علم وأهل مواهب وأهل طموح في فنونهم ، وما دامت شهوة العلم قد غلبتهم ، وأرادوا أن يدرسوا منهج الإسلام بموضوعية ، لذلك تجدهم يعلنون الإسلام لأنهم ينظرون النظرة الحقيقية للدين الذي يدرسونه ، وهم يأخذون الإسلام من منبعه الإيماني وهو القرآن الكريم والسنّة النبوية ، ولا يأخذون الإسلام من المنسوبين للإسلام ، أي من المسلمين لأن المسلمين قد يكون فيهم عاص ، وقد يكون فيهم سارق ، وقد يكون فيهم مُرْتشٍ ، وقد يكون فيهم كذاب ، وقد يكون فيهم منافق ، ولو أخذوا الإسلام عن المسلمين لقالوا : ما هذا ؟ معصية وسرقة وكذب ورشوة ونفاق ؟ ! إنني أقول دائماً لمن لم يدرس الإسلام من أهل البلاد الأخرى : لا تنظر إلى المنسوبين للإسلام ، ولكن انظر إلى الإسلام في جوهره ومنهجه : القرآن والسنة هل جرم الرشوة والسرقة والكذب والنفاق وجعل لها عقوبة أم لا ؟ نعم جرّمها . إذن فهذه الأفعال كلها التي وجدتها في عدد من المسلمين واستنكرتها ليست من الإسلام في شيء ، ولكنك إذا ذهبت إلى الإسلام لتعرفه من منابعه العلمية وهي معزولة عن المنسوبين إليه لانتهيت إلى الإيمان . ولذلك لو عرف المسلمون الذين ينحرفون عن المنهج ، ماذا يفعلون بالإسلام وكيف يسيئون إليه لعلموا أنهم يفعلون شيئاً خطيراً لأن الإسلام منهج وسلوك ، وليس منهجاً نظرياً فحسب ، بل هو منهج عملي يطبق في الحياة ، ولذلك فإذا كان القرآن الكريم يمثل قواعد المنهج ، فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل المنهج العملي التطبيقي للإسلام . ويقول الحق سبحانه : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ … } [ الأحزاب : 21 ] . والمسلم حين يطبق منهج الإسلام يلفت نظر غير المسلم إلى هذا الدين ويحببه فيه ، وحين يفعل ما لا يرضاه الإسلام يُنَفَرِّ غير المسلم من الدين ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] . لأن فعلك حين يختلف مع الدين الذي تدعو إليه وتؤمن به ، فهو يتحول إلى حجة ضد الدين ، فيقول غير المسلم : لقد رأيت المسلم يغش ، ورأيته يسرق ، ورأيت يده تمتد إلى الحرمات ، إذن فكل منحرف عن الدين إنما يحمل فأساً يهدم بها الدين ، ويكون عليه وزر عمله ، ووزر من اتخذوه قدوة لهم . ولقد قلنا : إننا حين ننظر إلى التمثيل الدبلوماسي في العالم الإسلامي ، نجد اثنتين وسبعين دولة إسلامية لها سفارات في معظم دول العالم ، وأتساءل : كم من أفراد هذه السفارات يتمسك بالمظهر الإسلامي ؟ . أقل القليل . وكم من الجاليات الإسلامية في الدول الأجنبية يتمسكون بتعاليم الدين ؟ . أقل القليل . ولو أنهم تمسكوا جميعاً بتعاليم الإسلام لعرفت دول العالم أن لهذا الدين قوة ومناعة تحميه . وأن هذه المناعة هي التي منعت الحضارة المادية المنحرفة من أن تؤثر في هؤلاء ، ولكان لفتة قوية لشعوب العالم لكي تدرس هذا الدين ، ولكنك تجدهم يذوبون ويتهافتون على الحضارة المادية للدول التي يقيمون فيها ، مما يجعل شعوب هذه الدول تقول : لو كان دينهم قوياً لتمسكوا به ، ولم يتهافتوا على حضارتنا . وإذا درسنا تاريخ الإسلام نجد أنه لم ينتشر بالقتال أو بالسيف لكنه انتشر بالأسوة الحسنة ، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ التوبة : 11 ] . أي نبينها لقوم يبحثون عن العلم الحقيقي ، الذي بَيَّنَه الله عز وجل في منهجه ، ولذلك نجد مثلاً أنه إذا وصلت أمة من الأمم إلى كشف جديد فأهل العلم في الإسلام يعرفون أنه ليس كشفاً جديداً لأن الإسلام ذكره منذ وقت طويل . فمثلاً في القانون في ألمانيا وصلوا إلى مادة في القانون سموها : " سوء استغلال الحق " فأنت لك حقوق ، ولكنك قد تسيء استغلالها . وبدأت الدولة في ألمانيا تتجه نحو تشريع قوانين تهدف لمنع إساءة استغلال الحقوق ووضع شروح لهذه القوانين وتطبيقها إلى آخره ، وذهب محام مسلم من بني سويف ليحصل على الدكتوراه من ألمانيا ، فاطلع على هذه المسألة ، وقد كان يحضر محاضرة يلقيها صاحب قانون نظرية " سوء استغلال الحق " ، فقام المحامي المسلم وقال له : أنت تقول إنَّك واضع هذه النظرية ؟ . فقال المحاضر الألماني : نعم . فقال المحامي : لقد جاءت هذه النظرية منذ أربعة عشر قرناً في منهج الإسلام . وارتبك المحاضر الألماني ارتباكا شديداً ، وجاء بالمستشرقين ليناقشوا هذا المحامي المسلم ، وجاءوا بكتب السيرة النبوية ، وأخرج المحامي للمستشرقين قصة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول : إن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان جالساً فجاءه صحابي يشكو من أن أحد الصحابة له نخلة في بيته ، والبيت مملوك للصحابي الشاكي ، والنخلة مملوكة لصحابي آخر ، وقد تعوَّد أن يأتي الصحابي صاحب النخلة إليها كثيراً ليشذبها ويلقحها ويطمئن عليها ، وكأنه قد جعلها " مسمار جحا " كما يقول المثل الشعبي ، فتعرضت عورة أسرة الصحابي صاحب البيت إلى الحرج ، فذهب يشكو الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحضر الرسول صاحب النخلة وأوضح له بما معناه : إما أن تهب النخلة لصاحب البيت ، وإما أن تبيعها له بالمال ، أو أن تقطعها . لقد أوضح له الرسول صلى الله عليه وسلم : أن النخلة حقك ولكنك أسأت استعمال الحق بكثرة ذهابك إلى مكانها بسبب وبغير سبب ، مما عرَّض عورة صاحب البيت للمتاعب . وكان هذا الفعل هو المثل الحي لسوء استغلال الحق . وكان من أمانة العلم أن يعدل أستاذ القانون الألماني في محاضرته ويقول : لقد ظننت أنني قد جئت بشيء جديد ، ولكن الإسلام سبقني إليه منذ أربعة عشر قرناً . وفعلاً تم التعديل . واعترف القانون الألماني بأن الإسلام قد سبقه في نظرية " سوء استغلال الحق " منذ ألف وأربعمائة سنة . ولذلك تجد أن صفة الأمية في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي أمته ، كانت شهادة تفوق لأنها لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السابقة ، وإنما أخذته عن الله لأن أقصى ما يصل إليه غير الأميين في علمهم أن يجيء إليهم العلم من بعضهم البعض ، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاء لها العلم من الله ، وسادت الدنيا أكثر من ألف عام . ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ … } .