Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 21-21)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إذن فهذا قمة الفوز للقوم الذين يبشرهم الله في هذه الآية بالرحمة منه وبالرضوان المقيم . والبشارة - كما نعلم - هي نوع من الإعلام بشيء سوف يأتي مستقبلاً ، أي ، أنك حين تبشر إنساناً فأنت تخبره بشيء قادم يسره . إذن ففائدة البشارة أن تغري الإنسان بسلوك السبيل الذي يحققها ، فأنا أبشرك بالنجاح إن استقمت وذاكرت واستمعت للأساتذة ، ويشجعك كلامي لتجتهد حتى تحقق هذه البشارة ، فكأن البشارة تجعلك تتخذ الوسيلة التي توصلك إليها . ولذلك فقد قلنا : إن الأسباب والمسببات والعلة والمعلول والشرط والجواب كلها يجب أن تحرر بشكل آخر ، لأننا كنا نتعلم أن الشرط سبب في الجواب كقولك : " إن تذاكر تنجح " ، وعلى ذلك فالشرط هو المذاكرة ، وسبب الجواب هو النجاح ، ونقول : لا ، إن الجواب هو السبب في الشرط لأنك لا تذاكر إلا إذا تمثل لك النجاح بكل ما يحققه لك من فرحة ، إذن فالشرط سبب في وجود الجواب واقعاً . والجواب سبب في وجود الشرط دافعاً ، أي : أن الدافع لمذاكرتك هو ما يمثله لك النجاح من قيمة مادية ومعنوية . وكل إنسان يرغب في النجاح ، لكن النجاح لا يتحقق بالدعاء فقط ، بل بالمذاكرة التي تحقق النجاح كواقع . بمعنى أنك لا تذاكر إلا وقد تمثل لك النجاح بمواهبه ومزاياه وبمكانته ويفرح أهلك بك ، وبفرحك بنفسك . ولهذا نقول : إن السبب هو الذي يوجد أولاً في الذهن . ومثال آخر : لنفترض أنك تريد أن تسافر إلى الطائف . فتكون الطائف هي الغاية ، وتكون أنت قد خططت للوسيلة وفي ذهنك الغاية ، إذن فالجواب يوجد دافعاً ، والشرط يوجد واقعاً . وقوله تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } أي : يخبرهم بالنهاية السارة التي سوف يصلون إليها ليتحملوا مشقة التكاليف التي يأمرهم بها المنهج لأن الجنة محفوفة بالمكاره ، ولأن التشريع الإلهي تقييد لحرية الاختيار في العبد ، والمؤمن مقيد بأوامر الله تعالى في " افعل " و " لا تفعل " . ولكن غير المؤمن إنما يتبع هواه في كل حركاته ، ويفعل ما يشاء له من الهوى ويطيع نزواته كما يريد ، أما المؤمن فحريته فقط فيما لم يرد فيه تشريع من الله تعالى ، أما ما يخضع للمنهج فهو مقيد الحركة فيه بما قضى الله به . فكأن الإيمان جاء ليقيد ، ولكن إذا قارنا بين الجزاءين ، نجد أن الذي يتبع شهواته في الدنيا إنما يحصل على لذة موقوتة ، وعمره في الدنيا محدود ، إذن فهو الخاسر ، لأن الذي قيد حركته بمنهج الله يأخذ اطمئنانا في الدنيا ونعيماً مقيماً لا يزول ولا ينتهي في الآخرة . والمثال الذي أضربه دائماً هو الطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ولا يذاكر ، ولكن يقضي وقته في اللعب واللهو ، وهو قد أعطى نفسه ما تريد ، ولكنه أخذ متعة محدودة ، ثم بعد ذلك يعيش في شقاء بقية عمره . أما الذي قيد حركته بالمذاكرة ، فقد منع شهوات نفسه في اللعب واللهو . وتكون الثمرة أنه يحقق لنفسه مستقبلاً مريحاً ومرموقاً بقية عمره . إذن فكل من الطالب الذي يجتهد وذلك الذي يلهو ويلعب ، كل منهما أخذ لوناً من المتعة . ولكن أحدهما أخذ متعة قصيرة جداً ، ثم أصبح من صعاليك الحياة ، أما الثاني فقد قيَّد نفسه سنوات معدودة ليتمتع بمستقبل ناجح . كذلك أنت في الدنيا إن قيدت نفسك بالتكاليف " افعل " و " لا تفعل " ، فظاهر الأمر أنك قَيَّدْتَ حريتك ، وإن فعلت ذلك برضا ، فالله يعطيك راحة واطمئناناً ومتعة في النفس . ولذلك نجد الصلاة وهي التي يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم على الأقل هذه الصلاة في ظاهرها أنها تأخذ بعضاً من الوقت كل يوم ، ولكنها تعطي راحة نفسية ، كما أنها تعطي اقتناعاً يفوق التصور إن خشع فيها الإنسان وأداها بحقها ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " يا بلالُ أرِحْنَا بالصلاة " . كما قال صلى الله عليه وسلم ضمن حديث رواه عنه أنس بن مالك رضي الله عنه " وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة " . لأن التكليف ينتقل من المتعة إلى الراحة . ويتمتع الإنسان فيها بتجليات ربه وفيوضاته فترتاح نفسه وتهدأ . وانظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } ، تجد البشارة هنا آتية من رب خالق . والرب هو المالك والمدبر الذي يرتب لك أمورك ، وهو مأمون عليك . { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ … } [ التوبة : 21 ] . والرحمة والرضوان من صفات الله وهي صفات ذاتية في الله ، ومتعلقات العبد فيها أنه سبحانه يهبها لمن يشاء . ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله : { وَجَنَّٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ التوبة : 21 ] . ونجد أن هذا ترقٍّ وتدرجٌّ في النعمة ، فقد بشرهم الله سبحانه أولاً بالرحمة ، وهي ذاتية فيه ، ثم بنعمة دائمة في الحياة . ولنلحظ أن هناك فارقاً بين النعمة والمنعم . ونضرب لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - إذا دعاك إنسان في بيته وقت الطعام ثم جاء بطبق فيه تفاح ، لا بد أن يكون التفاح في الطبق يكفي كل الجالسين بحيث يأخذ كل واحد منهم تفاحة ، فإذا أمسك صاحب البيت بتفاحة وأعطاها لأحد الجالسين . فهذا مظهر من مظاهر رعاية خاصة من صاحب البيت ، وتمييز لشخص ضيفه عن بقية الضيوف ، وهذه تمثل درجة أعلى من الكرم والاهمتام فهي تمثل الرحمة والرضوان . أما التفاح نفسه فهو النعمة ، ومثله مثل الجنات . وهكذا نرى أن هناك اختلافاً في التكريم . والمؤمنون حين يرتقون في درجة الإيمان يعيشون دائماً مع النعمة والمنعم ، فإذا جاء الطعام قالوا : " بسم الله " ، وإذا أكلوا قالوا : " الحمد لله " ، ولكنهم إذا ارتقوا أكثر في الإيمان عاشوا مع المنعم وحده ، ولذلك يباهي الله بعباده الملائكة يباهي بعبادتهم وطاعتهم التي يلتزمون بها على أي حالة يكونون عليها ، ولو نزل بهم أشد البلاء وسلبت منهم النعم ، وهؤلاء من أصحاب المنزلة العالية . ولذلك " فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل " ليرى الحق سبحانه وتعالى من يحبه لذاته وإن سلب منه نعمة ، وهذه منزلة عالية . فمن عبد الله ليدخل الجنة أعطاها له ، ومن عبده سبحانه لأنه يستحق أن يعبد ، فسوف يرتقي في الجنة ليرى وجه الله في كل وقت وأما الآخرون فيرونه لمحات ، ولذلك يكون الجزاء في الآخرة على قدر العمق الإيماني للعبد ، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] . وقال أحد الصالحين : " إني لا أشرك بك أحداً حتى الجنة ، لأن الجنة أحد " . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } وقد ترحم ولكنك لا تنال الرضوان ، فوضح المولى سبحانه وتعالى ذلك وأضاف " الرضوان " إلى " الرحمة " ، ولذلك يقول الحق عز وجل : { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } والرضوان هو ما فوق النعيم . وبعد الرضوان يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَجَنَّٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } . ولقائل أن يقول : هل هناك جنة ليس فيها نعيم ؟ ولماذا ذكرت النعيم ؟ والجنة وجدت أصلاً لينعم فيها الإنسان . ونقول لمثل هذا القائل : انتبه والتفت جيداً إلى المعنى ، فالمتحدث هو الله سبحانه وتعالى . وقد يكون عند الإنسان نعمة واسعة ، ولكن يحيا في الكثير من المنغصات ، مما يجعله لا يستمتع بالنعمة ، كمرض يملؤه بالألم ، أو ابن عاق يكدر حياته ، أو زوجة تملأ الحياة كدراً ونكداً ، قد يحدث كل ذلك فلا يستمتع الإنسان بما يملك من نعمة الله لأن المكدرات قد أحاطت به . وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن جنة الآخرة ليس فيها منغصات الدنيا ، بل هي صفاء واستمتاع ، يعطي فيها الحق سبحانه وتعالى لعبده ما تشتهيه نفسه ويبعد عنه جميع المنغصات ، وقد يخاف الإنسان ألا يدوم مثل هذا النعيم ، لذلك يطمئن الحق العبد المؤمن أنه { نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } ، قد ينظر إنسان إلى أن الإقامة مقولة تحمل التشكيك ، فقد تستغرق الإقامة زمناً طويلاً ثم تنتهي ، وشاء الله - عز وجل - أن يطمئن المؤمن بوعد حق ، فوعد المؤمنين بالخلود الأبدي في الجنة . فيقول سبحانه وتعالى : { خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ … } .