Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 40-40)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ووقف المستشرقون عند قول الحق سبحانه : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } وكعادتهم - كمشككين في الإسلام - نجدهم يبذلون جهداً كبيراً في محاولة التصيد لأخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم فيقولون : إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون لا تُمكِّن أذهانكم من الجراءة اللازمة للبحث في أساليبه لتكتشفوا ما فيه من الخلل . ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي لا قداسة له فسوف تجدون فيه التضارب والاختلاف . وخصص المستشرقون باباً كبيراً للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم ، وجاءوا إلى مسألة الشرط والجزاء ، ومن يقرأ نقدهم يتعرف فوراً على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة العربية ، فهم قد أخذوا ظاهر اللغة العربية ، ولا يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم ، وقالوا : إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي وجود جواب لكل شرط ، فإن قلت : إن جاءك زيد فأكرمه ، تجد الإكرام يأتي بعد مجيء زيد ، وإن قلت : إن تذاكر تنجح ، فالنجاح يأتي بعد المذاكرة . إذن : فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط . وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن . ونقول لهم : إن كلامكم عن الشرط وجوابه صحيح ، ولكن افهموا الزائد ، فحين نحقق في الأمر نجد أن الجواب سبب في الشرط لأنك حين تقول : إن تذاكر تنجح ، فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر ، بل لا بد أن يتصور الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة ، إذن : فالجواب سبب دافع في الشرط ، ولكن الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع ، فتصُّور النجاح أولاً هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق النجاح ، وهكذا تكون الجهة منفكة لأن هذا سبب دافع ، وهذا سبب واقع . وقوله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } فعل مضارع ، زمنه هو الزمن الحالي ، ولكن الحق يتبع المضارع بفعل ماضٍ هو : { فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } فهل يكون الشرط حاضراً ومستقبلاً ، والجواب ماضياً ؟ ونقول : إن المعنى : إلا تنصروه فسينصره الله . بدليل أنه قد نصره قبل ذلك . وهذا ليس جواب شرط ، وإنما دليل الجواب ، فحين يكون دليل الجواب ماضياً ، فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب ، فحين دعاهم الله لينفروا فتثاقلوا ، أوضح لهم سبحانه : أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمداً وينصر دعوته ؟ لا لأنه سبحانه قادر على نصره ، والدليل على ذلك أن الله قد نصره من قبل في مواطن كثيرة ، وأهم موطن هو النصر في الهجرة ، وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على قريش وكل كفار مكة ، وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها ، إذن : فسابقة النصر من الله لرسوله سابقة ماضية ، وعلى ذلك فليست هي الجواب ، بل هي دليل الجواب . ونرى في قوله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } أن نصر الله له ثلاثة أزمنة ، فـ { إِذْ } تكررت ثلاث مرات ، فسبحانه يقول : { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } أي : أننا أمام ثلاثة أزمنة : زمن الإخراج ، وزمن الغار ، والزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } ، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة ساعة الإخراج من مكة ، وساعة دخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار ، وساعة حديثه مع أبي بكر . ولسائل أن يسأل : هل أخرج الكفار رسول الله من مكة ، أم أن الله هو الذي أخرجه ؟ ونقول : إن عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنُّتهم أمام دعوته ، كل ذلك اضطره إلى الخروج ، ولكن الحق أراد بهذا الخروج هدفاً آخر غير الذي أراده الكفار ، فهم أرادوا قتله ، وحين خرج ظنوا أن دعوته سوف تختنق بالعزل عن الناس ، فأخرجه الله لتنساح الدعوة ، وأوضح لهم سبحانه : أنتم تريدون إخراج محمد بتعنتكم معه ، وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولاً ، وسأخرجه أنا مدعوماً بالأنصار . وقالوا : إن الهجرة توأم البعثة . أي : أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة ، بدليل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل ، بعد ما حدث له في غار حراء ، قال له ورقة : ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . قال ورقة بن نوفل ذلك لرسول الله قبل أن يتثبت من النبوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمُخْرجيَّ هم ؟ قال ورقة بن نوفل : نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عُودِي " . إذن : فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، لماذا ؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أول من أعلن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد . ففكرة الهجرة مسبقة مع البعثة ولأن البعثة هي الصيحة التي دوَّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة . ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا : استضعف قوماً فصاح فيهم ، ولكن صيحة البلاغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها ، فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه الدعوة . وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ينصره بقريش في مكة لأن قريشاً ألفَتْ السيادة على العرب ، فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى الإسلام ، لقال من أرسِلَ فيهم : لقد تعصبتْ له قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية . فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا : لا . لقد كانت الصيحة الأولى في آذان سادة العرب ، ولا بد أن يكون نصر الإسلام والانسياح الديني لا من هذه البلدة بل من بلد آخر حتى لا يقال : إن العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن الإيمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم . ويلاحظ في أمر الهجرة أن فعلها " هاجر " . وهذا يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة ، وإنما هاجر ، والمهاجرة مفاعلة من جانبين ، فكأن قومه أعنتوه فخرج ، والإخراج نفسه فيه نصر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وحده من بيته الذي أحاط به شباب أقوياء من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد ، وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم ، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينتظره في الخارج ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لهم أنهم لن ينالوا من محمد لا بتآمر خفي ، ولا بتساند علني . وهذا نصر من الله . ويتابع الحق سبحانه : { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } ، ويتأكد في الغار نصر آخر . ذلك أن قصاص الأثر الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الأثر حتى جاء عند الغار ، وقال : هذه محمد وهو أشبه بالموجود في الكعبة ، أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام ، ثم قال : هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجاوزا هذا المكان . وكان قصاص الأثر يتعرف على شكل القدم وأثره على الأرض . وأضاف : إنهما ما تجاوزا هذا المكان ، إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض . وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار ، ولم يفكر أحدهم أن يقلب الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه ، مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن ، فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله . لكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك . وجاء واحد منهم وأخذ يبول ، فجاء بعورته قبالة الغار ، وهذا هو السبب في قول أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لأو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنة النبوة : لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم وهذا دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته ، أو هي كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا يُريه عورة غيره ، وليأخذها القارىء كما يأخذها ، وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار ، وجعل الحمام يبني عُشَّاً فيه بيض ، وجعل سراقة بن مالك يقول : لا يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخلا الغار ، وإلا لكانا قد حطَّما عُشَّ الحمام ، وهتكا نسيج العنكبوت . ونحن نعلم أن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت ، فالحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] . ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في : أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت ، وهو بيت العنكبوت ، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور ، وإنْ أهيجَ هاج . وهذا نصر ، ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي ، " فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " . هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار ، وكان الرد الطبيعي أن يقال : " لن يرونا " ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى ، فقال : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، لأنه ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله ، والله لا تدركه الأبصار فمن في معيته لا تدركه الأبصار . وتكون كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعوَّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول ، تكون هي الحجة على صدق ما قال ، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أسْرى به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء ، قال أبو بكر : إن كان قد قال فقد صدق . فحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فيما يحكيه سبحانه : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } ، فلا بد أن يذهب الحزن عن أبي بكر ، وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوباً ، خشي أن يكون فيها حيات ، أو ثعابين ، فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب حتى لم يَبْقَ من الثوب إلا ما يستر العورة ، فسدَّ الثقوب الباقية بيده وكعبه . إذن : فأبو بكر يريد أن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه لأنه إن حدث شيء لأبي بكر فهو صحابي ، أما إن حدث مكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالدعوة كلها تُهدم . إذن : فأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان ، ولكنه حزن خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصَابَ بمكروه . ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } اختلف العلماء في قوله تعالى { عَلَيْهِ } ، هل المقصود بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو أن المقصود بها أبو بكر ؟ وما دامت السكينة قد نزلت فلا بد أنه نزلت على قلب أصابه الحزن . ولكن العلماء يقولون : إن الضمائر في الآيات تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحق قال : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } أي محمداً عليه الصلاة والسلام ، وسبحانه يقول : { فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } أي محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويقول أيضاً : { إِذْ أَخْرَجَه } أي محمداً صلى الله عليه وسلم ، فكل الضمائر في الآية عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم يأتي قول الله سبحانه وتعالى : { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } إذن : فلا بد أن يعود الضمير هنا أيضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : ولكن لماذا لا نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } وهذا قول رسول الله ولا بد أن قوله يجعل السكينة تنزل على قلب أبي بكر . إذن : فالضمير هنا عائد على أبي بكر . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } وقد رأى الكفار عُشَّ الحمام وبيت العنكبوت ، وهذا ما منعهم من أن يروا الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكن ليس هذا هو المقصود - فقط - بالآية لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } والعنكبوت والحمام مرئيان ، وأول الجنود غير المرئية هو أنه لم يخطر على بال القوم ولا فكرهم أن ينظروا في الغار ، مع أن آثار الأقدام انتهت إليه . لكن الله طمس على قلوبهم وصرفهم عن هذه الفكرة بالذات ، ولم تخطر على بالهم . ثم جاء حدث آخر حين استطاع سراقة بن مالك وهو من الكفار أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما في طريقهما إلى المدينة ، وكلما حاول الاقتراب منهما ابتلعت الأرض قوائم فرسه في الرمال ، وعلى أية حال ما دام الحق سبحانه وتعالى قال : { بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } وقال في آية أخرى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ … } [ المدثر : 31 ] . إذن : فالجنود الذين سخرهم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليحفظوه خلال الهجرة لا يعلمهم إلا الله . وكل شيء في هذا الكون من جنود الله فهو سبحانه وتعالى الذي سخر الكافر لخدمة الإيمان ، ألم يكن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة هو عبد الله بن أريقط ، وكان ما زال على الكفر ، فكأن الله سبحانه وتعالى يسخر له الكافر ليكون دليله في رحلته من مكة إلى المدينة . وهكذا عمل الكافر في خدمة الإيمان ، وفي الوقت نفسه فكل ما رصدتْه قريش من جُعل لمن يدلُّها على مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُغْرِ الدليل الكافر بالخيانة ، بل أدخل الله على قلب الكافر ما يجعله أميناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحق سبحانه يقول : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } ، ولقد أراد الكفار القضاء على الدعوة بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو نَفْيه بإخراجه إلى مكان بعيد ، أو سجنه ، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن الباطل لا يمكن أن يعلو على الحق ، وأن الحق دائماً هو الأعلى ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } ولا يجعل الله كلمة الكفار السفلى إلا إذا كانت في وقت ما في عُلُوٍّ . وإن كان عُلوها هو علو الزَّبَدِ على الماء الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى : { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ … } [ الرعد : 17 ] . ولقد ضرب الله هذا المثل فقال : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا … } [ الرعد : 17 ] . أي : أن كل وادِ أخذ ما قدره الله له من الماء . { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ] . وهذا نلاحظه عندما يحدث سيل ، ونجده يأخذ معه القَشَّ والقاذورات التي لها كثافة قليلة لتطفو على سطح الماء ، ولكن أتظل عليه ؟ . لا ، بل تُطرد إلى الجوانب بقوة التيار ويبقى الماء نظيفاً . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ … } [ الرعد : 17 ] . إذن : فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن كلمة الكفار كانت في عُلُوٍّ كالزَّبَد ، ولكن : لماذا أوجد الله علواً ولو مؤقتاً للكفر ؟ أراد الحق ذلك حتى إذا جاء الإسلام وانتصر على الكفر يكون قد انتصر على شيء عال فيجعله أسفل ولذلك جاء الله سبحانه وتعالى بالمقابل وقال : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } ، فالنسق الأدائي في القرآن كان لا بد أن يتم على أساس لذلك جاء القول : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } لأن كلمة الله دائماً وأبداً هي العليا ، وليست كلمة الله عُلْيَا جَعْلاً ، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا وهي العليا . ولهذا لم يعطفها بالنصب لأن كلمة الحق سبحانه وتعالى هي العليا دائماً وأبداً وأزلاً . وإن كان الكفار قد أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أن يخرجوه إلى مكان بعيد لا يستطيع فيه أن يمارس دعوته ، أو يحبسوه ، فإنهم لم يظفروا بشيء من هذا لأن الله عزيز لا يُغلَبُ ، وعِزَّته مبنية على الحكمة . وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت المؤمنين إلى أن تثاقلهم عن الجهاد في غزوة تبوك لن يضر الدعوة شيئاً لأن الله قد نصر رسوله وهو وحده ، ونصره بجنود لم يَرَوْهَا ، فإذا كان النصر لا يحتاج إلا لكلمة الله ، ولا يتم إلا بإرادة الله ، فلماذا إذن التثاقل ؟ ويقول سبحانه بعد ذلك : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } .