Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 41-41)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه ليهبُّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم ، ويفتح لهم باب الوصول إليه لأنهم خلق الله وعياله ، فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعاً مهديين ، وأن يشاركوا في نُصْرة الدعوة إليه . والقتال في سبيل الله قد يكون مشقة في ظاهر الأمر ، ولكنه يَهَبُ الدعوة انتشاراً واستقراراً . وحين يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى الله ، ففي هذا القيام مغفرة وتوبة ، وهو رحمة من الله بهم . ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل : " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة " . ويقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي : " قالت السماء : يا ربي إئذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم لأنه طَعِمَ خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أغرِقَ ابن آدم لأنه طَعِم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الأرض مثلهما " . فماذا قال الحق سبحانه وتعالى ؟ قال : " دعوني وعبادي ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " . وهكذا نرى رحمة الله بخلقه . وبعد أن لام الحق سبحانه المسلمين لأنهم لم يتحمسوا للجهاد ، يفتح أمامهم باب التوبة فقال : { ٱنْفِرُواْ } أي : اخرجوا للقتال ، وهذا أمر من الله يوقظ به سبحانه الإيمان في قلوب المسلمين ، وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك . ولذلك قال : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } والنفرة : هي الخروج إلى شيء بمهيج عليه ، والمثال : هو التباعد بين إنسان وصديق له كان بينهما وُدّ ، ثم حدث من هذا الصديق سلوك أو قول يُهيج على الخروج عليه ، فينفر منه الإنسان . والحق سبحانه هنا يأمر : { ٱنْفِرُواْ } والذي يهيج على النفور هو رفعة دين الله وكلمته ، وحين ترفعون كلمة الله إنما يفتح لكم باب الارتفاع بها فقال : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } . والخفيف : هو الصحيح السليم القوي الذي لا تتبعه ولا ترهقه الحركة . والثقيل : هو المريض أو كبير السن . والله يريد من الجميع أن يسارعوا إلى القتال لينجوا من العذاب الأليم ، وينالوا توبته ورضاه . ولكن الصحيح خفيف الحركة يمكنه أن يقاتل ، فماذا يفعل المريض ؟ يفعل مثلما فعل سيدنا سعيد بن المسيَّب وكان مريضاً ، إذ قالوا له : إن الله أعفاك من الخروج إلى المعركة في قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ … } [ الفتح : 17 ] . فقال : والله أكَثِّرُ سواد المسلمين وأحرس متاعهم . ومن الممكن أن يكون المريض متميزاً بالذكاء وصحة العقل ، ويمكن أن يُسْتشار في مسألة ما . وقد يكون المريض أسْوة في قومه ، فإذا خرج للقتال هاج قومه وخرجوا معه ، ويمكن أن يكون المريض أو الضعيف حافزاً للأقوياء على القتال . فحين يرى الأقوياء المريض وهو يخرج للقتال فإنهم يخجلون أن يتخلفوا هم . واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } فبعضهم قال : إن هذه إشارة إلى ذات الإنسان ، فهناك ذات خفيفة وذات ثقيلة في الوزن لا تستطيع الحركة بسهولة ، وقال آخرون : إن الفرد الواحد يمكن أن يكون فيه الوضعان ، وقوله تعالى : { ٱنْفِرُواْ } هو أمر للجماعة ، و { خِفَافاً } جمع " خفيف " ، و { ثِقَالاً } جمع " ثقيل " ، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة إلى آحاد . والمعنى : أن ينفر كل واحد من المسلمين سواء كان خفيفاً أم ثقيلاً . وسبق أن ضربنا المثل حينما يدخل الأستاذ على الطلبة ويقول : أخرجوا كتبكم ، ومعنى هذا الأمر أن يُخرج كل تلميذ كتابه ، وإن قلت : اركبوا سياراتكم ، فمعنى ذلك أن يركب كل واحد منكم سيارته . إذن : فالآية تعني : لينفر كل واحد منكم سواء كان ثقيلاً أم خفيفاً . ولكن : كيف يكون الإنسان ثقيلاً وخفيفاً في وقت واحد ؟ نقول : يكون خفيفاً أي : ذا نشاط للجهاد ، وثقيلاً أي : أنه سيدخل في مشقَّة تجعل المهمة ثقيلة على نفسه . والله سبحانه وتعالى يقول : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] . والدخول فيما هو مكروه في سبيل الله أمر يرفع درجات الإيمان . إذن : فالآية تحتمل أكثر من معنى ، فهي تحمل المعنى العام : أن يكون البعض خفيفاً والبعض ثقيلاً في ذاته ، أو : أن يجمع القتال بين الخفة في الحركة والثقل في المشقة ، أو : أن يكون الذي يملك دابة هو الخفيف لأن الدابة تزيل المشقة وأسرع في الطريق ، والثقيل هو من يجاهد ماشياً لأنه سيتحمل طول المسافة . وساعة يشحن الحق سبحانه وتعالى قلوب المؤمنين ، فهو يطلب منهم ما يكلفهم به بقوة ، ثم تتجلى رحمته فيخفف التكليف . ولو جاء الحكم خفيفاً في أول التشريع ، ثم يُصعَّد فإن هذا الأمر يكون صعباً على النفس ، ولكن عندما يأتي الحكم ثقيلاً ، ثم يخفف يكون أقرب إلى النفس ، والمثال في قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] . وهنا يعطي الحق مقياساً لقدرة المؤمن بالنسبة للكافر . فالعشرون يغلبون مائتين ، أي : أن النسبة هي واحد من المؤمنين إلى عشرة من الكافرين ، ولذلك فعندما نزلت هذه الآية كان على المؤمن الواحد أن يقتل عشرة من الكافرين ، لكن الحق سبحانه وتعالى قد علم أن هذا الأمر شديد على نفوس المؤمنين بأن يواجه المؤمن الواحد عشرة من الكفار ، فإنه لا يقدر على ذلك إلا أولو العزم ، فقال سبحانه : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] . وما دام هناك ضعف فلا بد أن يُخفف الأمر بالنسبة للمؤمنين في مواجهة الكفار أثناء القتال . ونقل الحق سبحانه وتعالى النسبة من : واحد إلى عشرة ، إلى : واحد إلى اثنين ، فقال سبحانه وتعالى : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 66 ] . لذلك : مَنْ فَرَّ من قتال اثنين يكون قد فَرَّ من الزحف ، ولكن إن فرّ من مواجهة ثلاثة لا يُحسب فَاراً لأنهم أكثر من النسبة التي قررها الله . وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } هو أمر يشمل الجميع على اختلاف أشكالهم ، أي : أنها تحمل أمراً عاماً لكافة المسلمين . ولكن هناك قول آخر في سورة التوبة ، أعفى بعض حالات معينة من المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم لله ، فيقول سبحانه : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 91 - 92 ] . أي : ليس على هؤلاء الذين جاءت الآيتان الكريمتان بذكرهم أيُّ حرج في أن يقعدوا عن القتال . وكان هذا هو الاستثناء من القاعدة العامة التي فرضت على كل مؤمن أن يقاتل في سبيل الله ، وهو ما جاءت به الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } والمال هو الذي يجعلك تُعدُّ السلاح للحرب ، وحين يذهب الجيش إلى القتال لا بد أن يكون مُزوَّدَاً بالسلاح ، وبالمركبات وهي مثل الخيل على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً لا بد من الزاد الذي يكفي لأيام القتال ، لذلك جاء الله سبحانه وتعالى بذكر المال أولاً ، ثم بعد ذلك ذكر الأنفس والأرواح ، ومن يملك القوة والمال فعليه أن يجاهد بهما ، ومن يملك عنصراً من الاثنين القوة أو المال ، فعليه أن يجاهد به . فإن كان ضعيفاً فعليه أن يعين بماله القوي القادر على القتال بأن يوفر له الأسلحة والخيول والدروع وغير ذلك من وسائل القتال . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَجَٰهِدُواْ } ، و " جاهد " و " قاتل " مبنية على المفاعلة ، بمعنى : إن قاتلك واحد من الكفار ، فلا بد أن تبذل كل جهدك في قتاله ، و " جاهد " مثل " شارك " ، فهل تقول : شارك زيد ثم تسكت ، أم تقول : شارك زيد عَمْراً ، وقاتل زيد عمراً ؟ إذن : فهناك مفاعلة . ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 200 ] . وهذا القول هو أمر بالصبر على القتال . ولكن هَبْ أن عدوك صبر مثلك ، هنا يأتي أمر آخر من الحق سبحانه وتعالى : { وَصَابِرُواْ } أي : اغلبه في الصبر بأن تصبر أكثر منه . وكذلك { وَجَٰهِدُواْ } أي : اغلبوهم في الجهاد ، بأن تجاهدوا أكثر منهم . ونعود إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وسبيل الله هو : الطريق الموصل إلى الغاية التي هي رضا الله والجنة . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، و " ذا " اسم إشارة ويشير إلى المفرد المستفاد من قوله تعالى : { وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } إذن : فـ " ذا " تشير إلى الجهاد بالمال والنفس ، و { لَّكُمْ } تشير للخطاب لأن الحق سبحانه وتعالى يخاطب جماعة . وبعض من لا يفهم اللغة يقول : { ذٰلِكُمْ } كلمة واحدة خطاباً أو إشارة ، ونقول لهم : لا ، بل هي كلمتان إشارة وخطاب . والإشارة هنا لشيء واحد ، والخطاب لجماعة . ومثال هذا أيضاً قول الحق سبحانه على لسان امرأة العزيز في قصة يوسف عندما جمعت امرأة العزيز النسوة ، وأخرجت يوسف عليهن ، وصارت هناك جماعة من النسوة ، وهناك يوسف - أيضاً - : { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] . و " ذا " المقصود بها يوسف ، و " لكُنَّ " هن : النسوة المخَاطَبات . ومثال آخر أيضاً هو قول الحق سبحانه : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [ القصص : 32 ] . و " ذان " إشارة لاثنين ، وهما معجزتان من معجزات موسى عليه السلام العصا واليد البيضاء ، وحرف الكاف للمخاطب وهو موسى عليه السلام . إذن : فقول الحق : { ذٰلِكُمْ } في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها مكون من كلمتين : الإشارة لواحد والخطاب لجماعة . وقوله تعالى : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ } … عن أي خير يتحدث سبحانه ؟ إن نفرتم وجاهدتم بأموالكم وأنفسكم فهو خير ، ولا بد أن يكون خيراً من مقابل له . والمقابل له هو القعود عن الجهاد بأموالكم وأنفسكم . إذن : فالجهاد خير من القعود . وكلمة { خَيْرٌ } تستعمل في اللغة استعمالين الاستعمال الأول أن يراد بها الخير العام ، كقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . ويكون مقابلها في هذه الحالة هو الشر . ومرة تأتي " خير " بمعنى " أفعل التفضيل " ، كأن تقول : هذا خير من هذا . وفي هذه الحالة يكون كل من الأمرين خيراً ، ولكن أحدهما أفضل من الآخر ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خَيْرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " فإن جاءت " خير " دون أن تسبقها " من " فالمراد بها المقابل لها ، وهو " الشر " . ونجد بعضاً من أساتذة اللغة العربية يقولون : عندما تستخدم كلمة " خير " كأفعل تفضيل لا تقل : " خير " ، بل قل : " الخير " ، ولكن اللفظ المستخدم هنا هو " خير " ، فإن استُعْمِل في أفعل التفضيل فهو يعطي الصفة الزائدة لواحد دون الثاني ، والاثنان مشتركان في الخيرية . وعلى سبيل المثال " كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد اسمه زيد بن حارثة اشترته خديجة رضي الله عنها ، وأهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف أبو زيد وعمه مكانه فذهبا إلى مكة ليروه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنت قد علمت ورأيت محبتي لك فاخترني أو اخترهما " . فقال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً ، أي : أنه اختار أن يبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذهب مع أهله ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكافئه فألحقه بنفسه وقال : " يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه " وكان التبني مباحاً عند العرب ، وأراد الحق أن يُلغي التبني وأن يطبق رسول الله هذا الإلغاء بنفسه ، فجاء قول الحق سبحانه وتعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 40 ] . وهكذا أنهى الحق سبحانه وتعالى التبني ، وقال سبحانه وتعالى : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] . و { أَقْسَطُ } يعني " أعدل " ، كأن الحق سبحانه وتعالى لم يَنْف عن رسوله صلى الله عليه وسلم العدل ، ولكنه أنزل ما هو أعدل . إذن : فساعة ترى أَفعل التفضيل فاعلم أنه يعطي الصفة الزائدة ويُبقي الصفة الأصلية . وفي الآية التي نحن بصددها { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ } ومقابلها : أن القعود عن الجهاد بالمال والنفس شر . يقول الحق سبحانه : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } إذن : فهناك موازين نعرف بها ما هو خير وما هو شر … وحينما قال الحق : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فكأن هناك مقدمات للعلم ، فإن لم يكونوا يعلمون فالله يعلمهم ، ذلك أن الذي يجاهد بماله ونفسه يكون قد اقتنع بيقين أنه سوف يحصل من الجهاد على ما هو خير من المال والنفس . وأيضاً : إن قُتل فهو باستشهاده صار أسوة حسنة لمن يأتي بعده . وحين أوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من يقاتل صابراً محتسباً يدخل الجنة ، جاء له صحابي في فمه تمرة يمضغها فيقول : أليس بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن أقاتل فيقتلوني ؟ فلما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم : نعم . استبطأ الصحابي أن يضيع مضغ التمرة وقتاً ، وأن يتأخر عن القتال بسببها ، فرماها من فمه وقاتل حتى استشهد . وكان هذا دليلاً على أنه واثق تمام الثقة أن الاستشهاد يعطيه جزاءً أعلى بكثير مما ترك . ثم بعد ذلك يعود الحق سبحانه وتعالى إلى الذين يتثاقلون عن الجهاد ليصفي المسائل كلها ، فيقول جل جلاله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ … } .