Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 51-51)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } الحديث هنا عما يصيب الإنسان أو ما يحدث له ، فإن حدث للإنسان شيء يأتي منه خير ، يكون بالنسبة له حسنة وإن أتى منه شر يكون من وجهة نظره سيئة ، إذن فالإصابة هي التقاء هدف بغاية ، إذا تحقق الهدف وجاء بخير فهو حسنة ، وإن جاء بِشَرٍّ فهو سيئة . والمصائب نوعان : مصيبة للنفس فيها غريم ، ومصيبة ليس فيها غريم ، فإن اعتدى عليّ واحد بالضرب مثلاً يصبح غريمي ، وتتولد في قلبي حفيظة عليه ، وغيظ منه ، وأرغب في أن أرد عليه وأثأر لنفسي منه ، ولكن إن مرضت مثلاً فمن هو غريمي في المرض ؟ لا أحد . إذن : فالمصائب نوعان نوع لي فيه غريم ، ونوع لا يوجد لي غريم فيه النوع الأول الذي يكون لي فيه غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد ، ويُرغِّبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم ، فيقول : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] وهنا ثلاث مراحل : الأولى كظم الغيظ ، والثانية هي العفو ، والثالثة هي أن تحسن فترتقي إلى مقام من يحبهم الله وهم المحسنون . وكذلك يقول الحق : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . أي : من صبر على ما أصابه ، وغفر لغريمه وعدوه ، فالصبر والمغفرة من الأمور التي تحتاج إلى عزم وقوة حتى يطوّع الإنسان نفسه على العفو وعدم الانتقام . أما المصائب التي ليس للإنسان فيها غريم فهي لا تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس ، وإنما تحتاج إلى صبر فقط ، إذ لا حيلة للإنسان فيها . ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من المصائب : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] . لأن العزم المطلوب هنا أقل ، ولذلك لم تستخدم " لام التوكيد " التي جاءت في قوله تعالى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . ولا بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . هذه الآية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس ، فالمطلوب أولاً أن يكظم الإنسان غيظه ، أي أن الغيظ موجود في القلب ، ويتجدد كلما رأى الإنسان غريمه أمامه ، ويحتاج هذا من الإنسان أن يكظم غيظه كلما رآه ، ثم يرتقي المؤمن في انفعاله الإيماني ، فيأتي العفو ، وهذه مرحلة ثانية وهي أن يُخرجَ الغيظ من قلبه ، ويحل بدلاً منه العفو . ثم تأتي المرحلة الثالثة : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . أي : أن هذا إحسان يحبه الله ويجزي عليه ، وهو أن تحسن لمن أساء إليك ، فتنال حب الله ، وهذا من كمال الإيمان لأن العبيد كلهم عيال الله ، واضرب لنفسك المثل - ولله المثل الأعلى - هَبْ أنك دخلت البيت ، ووجدت أحد أولادك قد ضرب الثاني ، فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت ؟ لا بد أن يكون قلبك مع المضروب ، لذلك تُربِّتُ على كتفه وتصالحه ، وقد تعطيه مالاً أو تشتري له شيئاً لترضيه ، أي أنك تحسن إليه . وما دمنا كلنا عيال الله ، فإن اجترأ عبد على عبد فظلمه فالله يقف في صف المظلوم . إذن فمن أساء إليك إنما يجعل الله إلى جانبك . أفلا يستحق في هذه الحالة أن ترد له هذه التحية بالإحسان إليه ؟ إن الولد الظالم يرى أخاه المظلوم وقد انتفع بعطف أبيه ، وقد يحصل الابن المظلوم على شيء يريده ، والظالم في هذه الحالة إنما يحلم أن يكون هو الذي حدث عليه الاعتداء ليحصل على بعض من الخير . والحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوصينا حين تأتي المصائب أن نرد على الكافرين ونقول : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } وهكذا تُرَدُّ المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومُدبِّر أمره فقد يحدث لي شيء أكرهه ولكنه في حقيقة الأمر يكون لصالحي ، فإن ضربني أبي لأنني أهمل مذاكرتي ، أيكون ذلك عقاباً لي أم لصالحي ؟ إن أنت نظرت إلى المستقبل والنجاح الذي سوف تحققه في الحياة إن ذاكرت ، فهذا العقاب لصالحك وليس ضدك ، وكذلك لا بد أن نأخذ أحداث الله في كونه بالنسبة للمؤمنين ، فإن هُزموا في معركة ، فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى الخير في دينهم وإلى أنهم لا بد أن يعرفوا أن النصر له أسباب وهم لم يأخذوا بها فلهذا انهزموا . ولله المثل الأعلى ، فنحن نجد الأستاذ - وهو يأخذ الكراسات من التلاميذ ليصحح لهم أخطاءهم - يعاقب المخطئ منهم ، وفي هذا تربية للتلاميذ . إذن : إن رأيتم مصيبة قد نزلت بنا وظننتم أنها تسيئنا فاعلموا أننا نثق فيمن أجراها ، وأنه أجراها لحكمة تأديبية لنا ، وأن كل شيء مكتوب لنا لا علينا ، الذي كتبه وهو الحق سبحانه وتعالى هو القائل : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ … } [ المجادلة : 21 ] . إذن : فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير ، وأن هناك أحداثاً تتم للتأديب والتهذيب والتربية ، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه ، فالإنسان لا يربي إلا من يحب ، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته ، فما بالنا بحب الخالق لنا ؟ إن الأب إن دخل البيت ووجد في فنائه عدداً من الأولاد يلعبون الورق وبينهم ابنه ، فهو ينفعل على الابن ، ولكن إن دخل البيت ووجد أولاد الجيران يلعبون الورق فقد لا يلتفت إليهم ، فإذا أصابت المسلمين ما يعتبره المنافقون والكافرون مصيبة يفرحون بها ، فهذا من غبائهم لأن كل ما كتبه الله هو لصالح المؤمنين به ، إما أدباً وإما ثواباً وإما ارتقاءً في الحياة ، ولذلك فهو خير ، ومن هنا كانت الآية الكريمة { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } وما كتب الله للمؤمنين إنما هو في صالحهم . ثم يزيد الحق سبحانه وتعالى المعنى تأكيداً فيقول سبحانه : { هُوَ مَوْلاَنَا } وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى أمور المؤمنين وهو ناصرهم ، فالمولى الأعلى لا يسيء إلى مَنْ والاه ، ثم يأتي الإيضاح كاملاً في قوله تعالى : { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } لأن الله الذي آمنتَ به هو إله قادر حكيم ، فإذا جرتْ عليك أمور فابحثها إن كانت من فعل نفسك ، هنا عليك أن تلوم نفسك ، أما إن كانت من مجريات الله عليك ، فلا بد أن تفهم أنها تحدث لحكمة . والحق سبحانه وتعالى قد يعطي الكافر مقومات حياته ، ولكنه يعطي المؤمن مقومات حياته المادية والقيمية معاً . وبهذا المفهوم نعرف أنه إن أصابنا شيء نكرهه ، فليس معنى ذلك أن الله تخلى عنا ، ولكنه يريد أن يؤدبنا أو يلفتنا لأمر ما ، فإنه لو لم يؤدبنا أو يلفتنا لكان قد تخلى عنا حقاً . والحق سبحانه وتعالى حين يخطئ المؤمن تجده سبحانه يلفته إلى خطئه ، وفي هذه الحالة يعرف المؤمن أن الله لم يتركه لذلك لا يقولن أحد : إن الله تخلى عنا ، فهذا ضعف في الإيمان وبالتالي فإنه ضعف في التوكل . ولكن قل : إن الله حين يؤدبك فهو لا يتخلى عنك ، فساعة تأتي المصيبة اعلم أنه لا يزال مولاك . وما دام مولاك يحاسبك على أي خطأ ويصوِّبه لك ، فثِقْ به سبحانه وتوكل عليه . وعلى سبيل المثال : لنفترض أن إنساناً اتكل عليك في أمر من الأمور ، ثم أخطأتَ أنت في هذا الأمر ، لا بد أن يأتي لينبهك إلى ما أخطأت فيه ويقترح عليك وسيلة لإصلاح الخطأ ، وفي هذه الحالة ستجد نفسك ممتلئة بالثقة في هذا الإنسان ، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى حين نتوكل عليه ويُصوِّب لنا كل أمر ؟ ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح . ولذلك يقال : الجوارح تعمل والقلوب تتوكل . فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور وترويها ، وهذا من عمل الجوارح لا بد أن تؤديه ، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع ، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة فتضيع كل ما عملته ، وبعد إتقانك لعملك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك ناتج عملك . أما الذين لا يعملون بجوارحهم ويعلنون أنهم متوكلون على الله ، فنقول لهم : أنتم كاذبون لأن التوكل ليس من عمل الجوارح بل من عمل القلوب ، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل . لكن على مَنْ نتوكل ؟ إنك حين تتوكل على الحي الذي لا يموت ، فلن يضيع عملك ، أما إن اتكلت على إنسان مثلك حتى وإن كان ذا قوة ، فقد تنقلب قوته ضعفاً ، وقد يُكْرِهُك أو يُذِلُّكَ ، وقد تصيبه كارثة فيموت . ويُبلِّغ الحق سبحانه رسوله أن يرد على الذين يفرحون في مصائب المسلمين ليكشف لهم أن فرحهم بالمصيبة هو فرح أغبياء . فيأتي قوله الحق : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ … } .