Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 63-63)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إذا سمعت { أَلَمْ } ، فافهم أن هذا استنكار ، كأن وسائل العلم قد تقدمت ، وكان من الواجب أن تعلم . فإذا قلت لإنسان : ألم تعلم أنه حدث كذا وكذا ؟ فمعنى ذلك أنه قد أعلن عن هذا الحادث عدة مرات ، ومع ذلك لم يعلمه . وهذا استنكار لتخلُّف هذا الإنسان عن العلم . وهنا يستنكر الحق عدم علم المنافقين بقضية أعلنها الله مرات ومرات ، وكان يجب أن يعلموها وألا تزول عن خواطرهم أبداً . وسبق أن قلنا : إن الاستفهام فيه نفي ، والهمزة همزة استفهام . ولم تأت للنفي ، وإذا دخلت همزة الاستفهام على النفي يكون استنكاراً . فإن قلت لإنسان : ألم أكرمك ؟ كأنك أكرمته عدة مرات وهو مُنكر لذلك . وقول الحق سبحانه وتعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } هو إقامة للحجة على أن الحكم قد بلغهم لأنه من الجائز أن يقولوا : إن الحكم لم يبلغنا ، فيوضح لهم الحق : بل بلغكم الحكم وقد أعلمتكم به عدة مرات . { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ } ما معنى يحادد ؟ نجد في الريف أن أهل الريف يضعون علامات من الحديد تفصل بين قطعة أرض وأخرى مجاورة لها ، كعلامة على الشيء الذي يفصل بين حق وحق ويسمونها حدّاً ، والذين يحادون الله هم الذين يجعلون الله في جانب وهم في جانب ، وبذلك لا يعيشون في معية الله ولا ينعمون بنعمة الإيمان به سبحانه ولا يطبقون منهجه . بل يجعلون حدّاً بينهم وبين ما أمر به الله . وعندما أراد العلماء تفسير هذه الآية قالوا : { يُحَادِدِ } تعني : يعادي ، وقالوا : بمعنى يشاقق أي : يجعل نفسه في شق والله ورسوله ودينه في شق آخر . أو : يحارب دين الله فيكون هو في وجهة ودين الله في وجهة أخرى . وهناك علاقة بين كلمة " يحارب " وكلمة " حد " ، فحدُّ السيف هو الجزء القاطع منه الذي يفصل أي شيء يقطعه إلى جزءين ، فكأن الذي يحادد هو من يحارب منهج الله ورسوله . فهو لا يكفر بالله فقط ، ولكنه يحمل السلاح ليجعل خلق الله يكفرون أيضاً . والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائماً في جانب الإيمان ، وألا يقيموا حدّاً بينهم وبين الإيمان به . والأحكام الشرعية تسمى حدوداً ، أي : أن كل حكم قد وضع ليحدد حدّاً من حدود الله ، تحفظ به الحقوق والأوامر . ومنهج الله إما أن يكون أوامر ، وإما أن يكون نواهي لأن منهج الدين كله في " افعل " و " لا تفعل " ، ويضع الحق سبحانه وتعالى عقاباً لمن يتعدى حدوده سبحانه ، فيقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . ويقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . ويسأل بعض الناس : ما الفرق بين اللفظين { تَعْتَدُوهَا } و { تَقْرَبُوهَا } . ونقول إذا كانت هناك أوامر فلا تتعد الأمر ، وإذا كانت هناك نواهٍ فلا تقترب من المنهى عنه . ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حين نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة المحرمة لم يقل : لا تأكلا من الشجرة ، بل قال : { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ … } [ الأعراف : 19 ] . وبذلك أباح سبحانه الأكل من كل ثمار الجنة ، ولكنه أمر { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } لأن القرب من هذه الشجرة إغراء بالمعصية فقد يعجبهما منظر الثمرة . وقد تغريهما رائحتها ، وقد يفتنهما لونها . ولكن عندما لا يقتربان من هذه المغريات كلها فهما يحميان نفسيهما من المعصية . وعندما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الخمر قال : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ … } [ المائدة : 90 ] . والحق لم يقل : لا تشربوا الخمر ، ولكن أمر باجتناب الخمر ، أي : لا تقرب أي مكان فيه خمر لأن وجود الإنسان في مكان فيه خمر قد يوحي إليه بتناولها . وقد يجد من الجالسين من يحاول إغراء من لا يشرب بأن يتناول ولو جرعة . إذن : فالحق سبحانه يريد أن يقي النفس المؤمنة من أن تغرى بالمعصية فتقع فيها . ويقول سبحانه في أدب الاعتكاف : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي ٱلْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 187 ] . المنهي عنه هنا هو المباشرة ، أي : إن تواجدت الزوجة مع زوجها في المسجد ، فليس في هذا الأمر معصية شرط ألا يباشرها الزوج ، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } ولم يقل : فلا تفعلوها ، ولكنه قال : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . إذن : ففيهما نهى الله سبحانه وتعالى عنه مطلوب من المسلم ألا يقرب منه ، أي : لا تكن أنت والشيء الذي نهى الله عنه في مكان واحد ، بل عليك أن تبتعد عن المكان لأن المعصية لها إغراءات ، وما دمت بعيداً عن الإغراءات فأنت تعصم نفسك ، أما إن اقتربت منها فقد تقع فيها . أما في الأوامر فيقول الحق سبحانه وتعالى : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } . وعلى سبيل المثال : إن نشأ خلاف بين الزوجين وفشلت كل محاولات الصلح بينهما ، يقول الحق سبحانه : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . إذن : ففي الأوامر يقول الحق : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ، وفي النواهي يقول سبحانه : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ } والإنذار هنا يتمثل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط ، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان ، فمثلاً بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه لذلك فالعذاب الذي يعدهم الله به في الآخرة ليس أليماً فقط ، ولكن فيه خزي وهوان . ويتمثل الخزي في أن المتكبر في الدنيا يأتي إلى الآخرة ويهان أمام الخلق جميعاً ، ويكفي خزياً أن يكون في النار . والمؤمنون الذين تكبَّر عليهم في الدنيا يعيشون في نعيم الجنة ، وتلك حسرة تصيبه ليس بعدها حسرة . ثم يفضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين فيقول : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ … } .