Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 4-4)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } : قد تقدَّم الكلام على " ماذا " وما قيل فيها فَلْيلتفت إليه . وقوله : " لهم " بلفظ الغيبة لتقدُّم ضمير الغَيْبة في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ } [ البقرة : 215 ] ، ولو قيل في الكلام : " ماذا أُحِلَّ لنا " لكانَ جائزاً على حكاية الجملة كقولك : " أقسم زيدٌ ليضربن ولأضربن " بلفظِ الغَيْبة والتكلمِ ، إلاَّ أنَّ ضميرَ المتكلم يقتضي حكايةَ ما قالوا ، كما أنَّ " لأضربنَّ " يقتضي حكايةَ الجملةِ المُقْسَمِ عليها ، و " ماذا أحِلَّ " هذا الاستفهامُ مُعلِّقٌ للسؤال وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب ، إلا أنَّه كان سبب العلمِ ، والعلمُ يُعَلَّق ، فكذلك سبُبه ، وقد تقدَّم تحريرُ القول فيه في البقرة . وقال الزمخشري هنا : " في السؤالِ معنى القولِ ، فلذلك وقعَ بعدَه " ماذا أُحِلَّ لهم " ، كأنه قيل : يقولون ماذا أحل لهم ؟ ولا حاجةَ إلى تضمين السؤال معنى القول لما تقدَّم من أنَّ السؤالَ يُعَلَّق بالاستفهام كمسببه . وقال ابن الخطيب : " لو كان حكاية لكلامِهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ، ومعلومٌ أنَّ ذلك باطل لا يقولونه ، وإنما يقولون : ماذا أحِلَّ لنا ، بل الصحيح أنه ليس حكايةً لكلامهم بعبارتهم ، بل هو بيانُ كيفية الواقعة " . قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ } في " ما " هذه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، العائدُ محذوف أي : ما عَلَّمْتموه ، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوعِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي وأُحِلَّ لكم صيدٌ أو أخذُ ما عَلَّمتم ، فلا بد من حذف هذا المضاف . والثاني : أنها شرطية فمحلُّها رفع بالابتداء ، والجوابُ قولُه : " فكُلوا " قال الشيخ : " وهذا أظهرُ لأنه لا إضمار فيه " والثالث : أنها موصولة أيضاً ومحلُّها الرفعُ بالابتداء ، والخبر قوله : " فكُلوا ، وإنما دخَلَتِ الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط . وقوله : { مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ } في محلِّ نصبٍ على الحال / وفي صاحبها وجهان ، أحدُهما : أنه الموصول وهو " ما " والثاني : أنه الهاء العائدةٌ على الموصول ، وهو في المعنى كالأول . والجوارح : جمع " جارحة " ، والهاءُ للمبالغة سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْرَحُ الصيدَ غالباً أو لأنها تَكْسَبُ ، والجَرْحُ : الكَسْبُ ومنه : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] . والجارحَةُ : صفةٌ جارية مجرى الأسماء لأنها لم يذكر موصوفها غالباً . وقرأ عبد الله بن عباس وابن الحنفية : " عُلِّمتم " مبنياً للمفعول ، وتخريجها أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف أي : وما عَلَّمكم الله من أمر الجوارح . " مكلِّبين " حالٌ من فاعل " عَلَّمتم " ، ومعنى " مكلِّبين " مؤدبين ومُضْرِين ومُعَوِّدين قال الشيخ " وفائدةٌ هذه الحالِ - وإنْ كانت مؤكدةً لقولِه : " عَلَّمتم " فكان يَسْتغنى عنها - أن يكون المعلمُ ماهراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به " انتهى ، وفي جَعْلِه هذه الحالِ مؤكدةً نظرٌ ، بل هي مؤسسةٌ . واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ " الكَلْب " هذا الحيوانِ المعروفِ وإن كانت الجوارحُ يندرج فيها غيرُه حتى سباعُ الطيور تغليباً له ، لأنَّ الصيدَ أكثرُ ما يكون به عند العرب . أو اشتقت من " الكَلَب " وهو الضراوة ، يقال : هو كَلِبٌ بكذا أي : حريص ، وبه كَلَبٌ أي : حرص ، وكأنه أيضاً مشتق من الكَلْبِ هذا الحيوانِ لحرصه ، أو اشتقت الكَلْب ، والكَلْبُ يُطْلق على السَّبُع أيضاً ، ومنه الحديثُ : " اللهم سَلِّط عليه كَلْباً من كلابك " فأَكَله الأسد . قال الشيخ : وهذا الاشتقاقٌ لا يَصحُّ لأنَّ كونَ الأسدِ كلباً هو وصف فيه ، والتكليبُ من صفة المعلِّم ، والجوارحُ هي سباعٌ بنفسها وكلاب بنفسِها لا بجَعْلِ المُعَلِّمِ " ولا طائلَ تحت هذا الرد وقرئ : " مُكْلِبين " بتخفيفِ اللام ، وفَعَّل وأَفْعل قد يشتركان في معنى واحد ، إلا أن " كَلَّب " بالتشديد معناه عَلَّمها وضَرّاها ، و " أَكْلب " معناه صار ذا كِلاب ، على أن الزَّجاج قال : رجلُ مُكَلِّب - يعني بالتشديد - ومُكْلِب يعني من أكلب ، وكَلاَّب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كلاب " . وجاءَتْ جملةُ الجوابِ هنا فعليةً وجملةُ السؤال اسمية وهي : ماذا أُحِل ؟ فيه جوابٌ لها من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ؛ إذ مل يتطابقا في الجنس . قوله : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنها جملة مستأنفة . الثاني : أنها جملة في محلِّ نصب على أنها حال ثانية من فاعل " عَلَّمتم " ومَنَع أبو البقاء ذلك لأنه لا يُجيز للعامل أن يَعْمل في حالين ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك . الثالث : أنها حال من الضمير المستتر في " مُكَلِّبين " فتكون حالاً من حال وتسمى المتداخلة ، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة ، لأن معناها مفهوم من " عَلَّمْتُمْ " ومن " مُكَلِّبين " والرابع : أن تكون جملة اعتراضية ، وهذا على جَعْل " ما " شرطية ، أو موصولة خبرها " فكلوا " فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه أو بين المبتدأ وخبره . فإن قيل : هل يجوز وجهٌ خامس ، وهو أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الجوارح أي : من الجوارحِ حالَ كونِها تُعَلِّمونهن ، لأنَّ في الجملةِ ضميرَ ذي الحال " فالجوابُ أن ذلك لا يجوز ، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحِبها بأجنبي وهو " مكلِّبين " الذي هو حالٌ من فاعل " عَلَّمتم " . قوله : { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } في " مِنْ " وجهان ، أظهرُهما : أنها تبغيضيةٌ ، وهي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، هو مفعولُ الأكل ، أي : فكلوا شيئاً مما أمسكنه عليكم . والثاني : أنها زائدةٌ وهو قياسُ قولِ الأخفش ، فعلى الأول تتعلَّق " مِنْ " بمحذوفٍ ، وعلى الثاني لا تَعَلُّقَ لها ، و " ما " موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة ، والعائدُ محذوفٌ ، وعلى كلا التقديرين أي : أَمْسَكَتْه كما تقدم . والنونُ في " أمسكن " للجوارح . و " عليكم " متعلق بـ " أمسكن " والاستعلاءُ هنا مجازٌ . قوله : " عليه " في هذه الهاء ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها تعود على المصدرِ المفهومِ من الفعل وهو الأكلُ كأنه قيل : واذكروا اسم الله على الأكلِ ، ويؤيده ما في الحديث " سَمِّ الله ، وكُلْ مِمَّا يَليك " والثاني : أنه يعود على " ما عَلَّمْتم " أي : اذكروا اسمَ الله على الجوارح عند إرسالِها على الصيد ، وفي الحديث : " إذا أَرْسَلْت كلبك وذكرت اسمَ الله " والثالثُ : أنَّها تعودُ على " ما أَمْسَكْن " أي : اذكروا اسمَ الله ما أَدْركتم ذكاته مما أَمْسَكَتُه عليكم الجوارح .