Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 25-49)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى عناد الكافرين من أهل مكة ، وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتهامهم له بافتراء القرآن ، ذكر هنا قصة نوح مع قومه الكافرين لتكون كالعظة والعبرة لمن كذّب وعاند ، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بسرد قصص المرسلين وما جرى لهم مع أقوامهم . اللغَة : { ٱلْمَلأُ } أشراف القوم وسادتهم { أَرَاذِلُنَا } الأراذل هنا : المراد بهم الفقراء والضعفاء والسَّفَلة ، وهو جمع أَرْذَل بمعنى السافل الذي لا خَلاَق له ولا يبالي بما يفعل { فَعُمِّيَتْ } عمي عن كذا ، وعمي عليه كذا ، بمعنى التبس عليه ولم يفهمه ، وخفي عليه أمره { جَادَلْتَنَا } الجدل في كلام العرب : المبالغة في الخصومة { تَزْدَرِيۤ } تحتقر { ٱلْفُلْكَ } السفينة ويطلق على المفرد والجمع { ٱلتَّنُّورُ } مستوقد النار { مُرْسَاهَا } رسا الشيء يرسو ثبت واستقر { عَاصِمَ } مانع يقال : عصمه إذا منعه ومنه الحديث " فقد عصموا مني دماءهم " { غِيضَ } غاض الماء نقص بنفسه وغضتُه أنقصته { ٱلْجُودِيِّ } جبلٌ بقرب المَوْصل . التفسِير : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } أي أرسلناه رسولاً إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي بأني منذرٌ لكم ومخوّف من عذاب الله إن لم تؤمنوا { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي أرسلناه بدعوة التوحيد وهي عبادة الله وحده { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي إني أخاف عليكم إن عبدتم غيره عذاب يوم شديد مؤلم { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي قال السادة والكبراء من قوم نوح { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } أي ما نراك إلا واحداً مثلنا ولا فضل لك علينا قال الزمخشري : وفيه تعريضٌ بأنهم أحقُّ منه بالنبوة ، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحدٍ من البشر لجعلها فيهم { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي وما اتبعك إلا سفلةُ الناس قال في التسهيل : وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلاً منهم واعتقاداً بأن الشرف هو بالمال والجاه ، وليس الأمر كذلك ، بل المؤمنون أشرف منهم على فقرهم وخمولهم { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أي في ظاهر الرأي من غير تفكر أو رويّة { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلكم للنبوة ، واستحقاق المتابعة { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه ، أرادوا أن يحجوا نوحاً من وجهين : أحدهما : أن المتبعين له أراذل القوم ليسوا قدوة ولا أسوة ، والثاني : أنهم مع ذلك لم يتَروَّوا في اتّباعه ، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به ، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا رويّة ، وغرضُهم ألا تقوم الحجة عليهم بأن منهم من آمن به وصدّقه { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } تلطف معهم في الخطاب لاستمالتهم إلى الإِيمان أي قال لهم نوح : أخبروني يا قوم إن كنتُ على برهان وأمرٍ جليٍّ من ربي بصحة دعوايَ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإِيمان { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } أي أنكرهكم على قبولها ونجبركم على الإِهتداء بها والحال أنكم كارهون منكرون لها ؟ والاستفهام للإِنكار أي لا نفعل ذلك لأنه لا إكراه في الدين { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } أي لا أسألكم على تبليغ الدعوة أجراً ، ولا أطلب على النصيحة مالاً حتى تتهموني { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } أي ما أطلب ثوابي إلا من الله فإنه هو الذي يثيبني ويجازيني { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي ولست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عن مجلسي ، ولا بطاردهم عني كما طلبتم { إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } أي إنهم صائرون إلى ربهم ، وفائزون بقربه فكيف أطردهم ؟ { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي ولكنكم قوم تجهلون قدرهم فتطلبون طردهم ، وتظنون أنكم خير منهم { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم ؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه ؟ { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } أي لا أقول لكم عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي ولا أقول لكم إني من الملائكة أُرسلت إِليكم فأكون كاذباً في دعواي { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً } أي ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين آمنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } أي أعلم بسرائرهم وضمائرهم { إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } أي إني إن قلت ذلك أكون ظالماً مستحقاً للعقاب { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي قال قوم نوح لنوحٍ عليه السلام : قد خاصمتنا فأكثرتَ خصومتنا { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي فائتنا بالعذاب الذي كنت تعدنا به إن كنت صادقاً في ما تقول { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } أي أمر تعجيل العذاب إليه تعالى لا إليَّ فهو الذي يأتيكم به إن شاء { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي ولستم بفائتين الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } أي ولا ينفعكم تذكيري إياكم ونصحي لكم { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي إن أراد الله إضلالكم وهو جواب لما تقدم والمعنى ماذا ينفع نصحي لكم إن أراد الله شقاوتكم وإضلالكم ؟ { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي هو خالقكم والمتصرف في شئونكم ، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي أيقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي قل لهم يا محمد إن كنت قد افتريت هذا القرآن فعليَّ وزري وذنبي ، ولا تؤاخذون أنتم بجريرتي { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي وأنا بريءٌ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم ، والآية اعتراضٌ بين قصة نوح للإِشارة إلى أن موقف مشركي مكة كموقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } أي أوحى الله إلى نوحٍ أنه لن يتبعك ويصدِّق برسالتك إلا من قد آمن من قبل { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك فإني مهلكهم { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } أي اصنع السفينة تحت نظرنا وبحفظنا ورعايتنا { وَوَحْيِنَا } أي وتعليمنا لك قال مجاهد : أي كما نأمرك { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } أي لا تشفع فيهم فإني مهلكهم لا محالة { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي هالكون غرقاً بالطوفان { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضارها في الذهن أي صنع نوحٌ السفينة كما علّمه ربُّه { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي كلما مرَّ عليه جماعة من كبراء قومه هزءوا منه وضحكوا وقالوا : يا نوحُ كنتَ بالأمس نبياً ، وأصبحتَ اليوم نجاراً ! ! { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } أي إن تهزءوا منا اليوم { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } أي فإنّا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن ، فأنتم أولى بالسخرية والاستهزاء { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيدٌ وتهديد أي سوف تعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي عذابٌ يُذلُّه ويهينه وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي وينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع وهو عذاب جهنم { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } أي جاء أمرنا الموعود بالطوفان { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } أي فار الماء من التنور الذي يوقد به النار قال العلماء : جعل الله ذلك علامة لنوح وموعداً لهلاك قومه ، وقال ابن عباس : التنور وجهُ الأرض قال الطبري : والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض ، قيل له : إذا رأيتَ الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة وقال ابن كثير : التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيوناً تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً ، وهذا قول جمهور السلف والخلف { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي احمل في السفينة من كل صنفٍ من المخلوقات اثنين : ذكراً ، وأنثى { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } أي واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك إلا من حكم الله بهلاكه ، والمراد به ابنهُ الكافر " كنعان " وامرأته " واعلة " { وَمَنْ آمَنَ } أي واحمل معك من آمن من أتباعك { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي وما آمن بنوح إلا نزرٌ يسير مع طول إقامته بينهم وهي مدة تسعمائة وخمسين سنة ، قال ابن عباس : كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم ، وعن كعب : كانوا اثنين وسبعين نفساً ، وقيل : كانوا عشرة { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } أي وقال نوح لمن آمن به اركبوا في السفينة ، باسم الله يكون جريُها على وجه الماء ، وباسم الله يكون رسوُّها واستقرارها قال الطبري : المعنى بسم الله حين تجري وحين تُرسي ، أي حين تسير وحين تقف { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ساتر لذنوب التائبين ، رحيمٌ بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } أي والسفينة تسير بهم وسط الأمواج ، التي هي كالجبل في العِظَم والارتفاع ، بإذن الله وعنايته ولطفه قال الصاوي : رُوي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة ، وخرج الماء من الأرض ينابيع كما قال تعالى { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 - 12 ] وارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي ونادى نوحٌ ولده " كنعان " قبيل سير السفينة وكان في ناحيةٍ منها لم يركب مع المؤمنين { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } أي اركب معنا ولا تهلكْ نفسك بالغرق { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } أي فتغرق كما يغرقون { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } أي سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق ، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رءوس الجبال { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي قال له أبوه نوح : لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجي من عقابه إلا من رحمه الله { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } أي حال بين نوحٍ وولده موجُ البحر فغرق { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } أي انشقي وابتلعي ما على وجهك من الماء { وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } أي أمسكي عن المطر { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } أي ذهب في أغوار الأرض قال مجاهد : نقص الماء { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي تمَّ أمر الله بإغراق من غرق ، ونجاة من نجا { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أي استقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله وهي جملة دعائية قال الألوسي : ولا يخفى ما في الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة ، بل على عموم هلاك أهل الأرض ما عدا أهل السفينة ، ويدل عليه ما رُوي أن الغرقَ أصاب امرأة معها صبيٌّ لها فوضعته على صدرها ، فلما بلغها الماء وضعته على منكبها ، فلما بلغها الماء رفعته بيديها ، فلو رحم الله أحداً من أهل الأرض لرحمها { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي } أي نادى نوح ربَّه متضرعاً إليه فقال : ربِّ إن ابني " كنعان " من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } أي وعدك حقٌ لا خُلْف فيه { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } أي وأنت يا ألله أعدل الحاكمين بالحق { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي قال له ربه : يا نوحُ إنَّ ولدك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر ولا ولاية بين المؤمن والكافر { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } إي إنَّ عمله سيءٌ غير صالح { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم أصوابٌ هو أم غير صواب ؟ { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين قال في التسهيل : وليس في ذلك وصفٌ له بالجهل ، بل فيه ملاطفةٌ وإكرام { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي قال نوح معتذراً إلى ربه عمّا صدر عنه : ربّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي وإلا تغفر لي زلتي ، وتتداركني برحمتك ، أكنْ ممن خسر آخرته وسعادته { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } أي اهبط من السفينة بسلامة وأمن { وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } أي وخيراتٍ عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة ، قال القرطبي : دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة { وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ } أي وأمم أخرى من ذرية من معك نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ } أي هذه القصة وأشباهها من أخبار الغيوب السالفة التي لم تشهدها { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } أي نعلمك بها يا محمد بواسطة الوحي { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } أي لم يكن عندك ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها من قبل هذا القرآن { فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } أي فاصبر على أمر الله بتبليغ الدعوة كما صبر نوح ، فإن العاقبة المحمودة لمن اتقى الله ، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين . البَلاَغَة : 1 - { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } شبّه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه ، بمن سلك مفازةً لا يعرف طرقها ومسالكها ، واتبع دليلاً أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية . 2 - { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } الاستفهام للإِنكار والتقريع . 3 - { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } الأمر يراد به التهكم والاستهزاء . 4 - { فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } مجاز بالحذف أي عقوبة إجرامي وجاء بـ { إِنِ } الدالة على الشك لبيان أنه على سبيل الفرض { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } بخلاف إجرامهم فإنه محقّق { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } . 5 - { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } الأعين كناية عن الرعاية والحفظ يقال للمسافر " صحبتك عين الله " أي رعاية الله وحفظه . 6 - { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } بين الأرض والسماء طباقٌ ، وبين ابلعي وأقعلي جناسٌ ناقص ، وكلاهما من المحسنات البديعية . فَائِدَة : قال ابن عباس في قوله تعالى { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } كان ابنه من صلبه ، ولكنه لم يكن مؤمناً ، وما بغت امرأة نبيٍّ قط ومعنى الآية : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك . أقول : نبهت الآية على أن أهله هم الصلحاء ، أهل دينه وشريعته ، فمن لا صلاح له لا نجاة له ، ومدار الأهلية القرابة الدينية ، لا القرابة البدنية . @ أبي الإِسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم @@ لطيفَة : روي أن أعرابياً سمع هذه الآية { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي … } الآية فقال : هذا كلام القادرين لا يشبه كلام المخلوقين ، ويروى أن " ابن المقفع " - وكان أفصح أهل زمانه - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاماً ، وجعله مفصلاً ، وسمّاه سوراً ، فمرَّ يوماً بصبي فسمعه يقرأ الآية فرجع إلى بيته ومحا ما كان قد بدأ به ، وقال : أشهد أن هذا لا يُعارض أبداً ، وما هو من كلام البشر . تنبيه : هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها ، وجمعت من المحاسن اللفظية والمعنوية ما يضيق عنه نطاق البيان ، وقد اهتم بإظهار لطائفها وأسرارها العلاّمة أبو حيان حيث قال رحمه الله وطيَّب ثراه : في هذه الآية أحدٌ وعشرون نوعاً من البديع : المناسبةُ في قوله { أَقْلِعِي } و { ٱبْلَعِي } والمطابقةُ بذكر الأرض والسماء ، والمجازُ في { يٰسَمَآءُ } المراد مطر السماء ، والاستعارةُ في { أَقْلِعِي } والإِشارة في { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } فإنها إشارة إلى معانٍ كثيرة ، والتمثيلُ في { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } عبّر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين ، والإِرداف في { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } فلفظ واستوت كلام تامٌ أردفه بلفظ { عَلَى ٱلْجُودِيِّ } قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان ، والتعليلُ في { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } فإنه علة للاستواء ، والاحتراسُ في { بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } وهو أيضاً ذم لهم ، والإِيجاز وهو ذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمَّة ، وعدَّد بقية الوجوه وهي : الإِيضاحُ ، والمساواة ، وحسنُ النَّسق ، وصحة التقسيم ، وحسن البيان ، والتمكين ، والتجنيس ، والتسهيم ، والمقابلة ، والتهذيب ، والوصف . " مقتطفات من تفسير سيد قطب في ظلال القرآن " وننقل هنا فقراتٍ من تفسير شهيد الإِسلام " سيد قطب " عليه الرحمة والرضوان حيث قال ما نصه : " وعند هذا المقطع من قصة نوح يلتفت السياقُ لفتةً عجيبة ، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة التي تشبه أن تكون قصَّتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } فالافتراء إجرام وعليَّ تبعته ، وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعدٌ أن أرتكبه ، وهذا الاعتراضُ لا يخالف سياق القصة في القرآن لأنها إنما جاءت لتأدية غرضٍ معيَّن ، ثم يمضي السياقُ في قصة نوح يعرض مشهداً ثانياً ، مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي برعايتنا وتعليمنا { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقد تقرر مصيرهم ، وانتهى الإِنذار ، وانتهى الجدل . والمشهد الثالث من مشاهد القصة : مشهدُ نوح يصنع الفلك { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } والتعبير بالمضارع هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدَّته ، فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير ، وقومه المتكبرون يمرون به فيسخرون ، يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً ، والمشهد الرابع : مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب : مشهد الطوفان { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ … وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } إن الهول هنا هولان : هولٌ في الطبيعة الصامتة ، وهولٌ في النفس البشرية يلتقيان . وإننا بعد آلاف السنين لنمسك أنفسنا - ونحن نتابع السياق - والهولُ يأخذنا كأننا نشهد المشهد ، { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } ونوحٌ الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء ، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعةٍ خاطفة راجفة { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب ، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن . وتهدأ العاصفة ، ويخيّم السكون ، ويقضى الأمر ، ويوجه الخطاب إلى الأرض والسماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل ، فتبلع الأرض وتكف السماء { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } .