Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-29)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمّا بيّن تعالى بالدليل الساطع ، والبرهان القاطع ، أن القرآن كلام الله لا يتطرأ إِليه شك ، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين ، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره ، ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر ( النحل ، والذباب ، والعنكبوت ، والنمل ) الخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب ، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة ، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه ، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة . اللغَة : { لاَ يَسْتَحْى } الحياء : تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، والمراد به هنا لازمه وهو الترك ، قال الزمخشري : أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي من ذكرها لحقارتها { فَمَا فَوْقَهَا } فما دونها في الصغر { ٱلْفَاسِقِينَ } أصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء ، والمنافق فاسق لخروجه عن طاعة ربه ، قال الفراء : الفاسق مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت ، ويسمى الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله ، وتسمى الفأرة فويسقة لخروجها لأجل المضرة . { يَنقُضُونَ } النقض : فسخ التركيب وإِفساد ما أبرمته من بناءٍ ، أو حبلٍ ، أو عهد قال تعالى { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } [ النحل : 92 ] وقال { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] أي فبنقضهم الميثاق { عَهْدَ } العهد : المَوْثق الذي يعطيه الإِنسان لغيره ويقال عهد إِليه أي أوصاه { ٱلْمِيثَاقَ } [ الرعد : 20 ] العهد المؤكد باليمين وهو أبلغ من العهد . { ٱسْتَوَىٰ } الاستواء في الأصل : الاعتدال والاستقامة يقال : استوى العود إِذا قام واعتدل ، واستوى إِليه كالسهم إِذا قصده قصداً مستوياً ، وقال ثعلب : الاستواء : الإِقبال على الشيء . { فَسَوَّاهُنَّ } خلقهن وأتقنهن وقيل معناه : صيّرهن . سَبَبُ النّزول : لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه ، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة ؟ فأنزل الله الآية . التفسِير : يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } أي إِن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيَّ مثلٍ كان ، بأي شيءٍ كان ، صغيراً كان أو كبيراً { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر ، فكما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق ، لا يقول غير الحق ، وأن هذا المثل من عند الله { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } ؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون : ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة ؟ قال تعالى في الرد عليهم { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم به ، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به ، فيزيد أولئك ضلالة ، وهؤلاء هدىً { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله ، الجاحدين بآياته ، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية ، من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد توكيده عليهم ، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله ، والتصديق بالرسل ، والعمل بالشرائع { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } من صلة الأرحام والقرابات ، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء ، وقطع الأرحام ، وترك موالاة المؤمنين { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } بالمعاصي ، والفتن ، والمنع عن الإِيمان ، وإِثارة الشبهات حول القرآن { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي أولئك المذكورون ، الموصوفون بتلك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، فصاروا إِلى النار المؤبدة { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } استفهام للتوبيخ والإِنكار والمعنى كيف تجحدون الخالق ، وتنكرون الصانع { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات { فَأَحْيَاكُمْ } أي أخرجكم إِلى الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء الآجال { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بالبعث من القبور { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } للحساب والجزاء يوم النشور . ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها ، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } أي ثم وجّه إرادته إلى السماء { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم ؟ ! بلى إنه على كل شيء قدير . البَلاَغَة : 1 - قوله { لاَ يَسْتَحْى } مجاز من باب إِطلاق الملزوم وإِرادة اللازم ، المعنى : لا يترك فعبّر بالحياء عن الترك ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، ومن استحيا من فعل شيء تركه . 2 - قوله { يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ } فيه ( استعارة مكنية ) حيث شبه العهد بالحبل ، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية . 3 - قوله { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } هو من باب ( الالتفات ) للتوبيخ والتقريع ، فقد كان الكلام بصيغة الغيبة ثم التفت فخاطبهم بصيغة الحضور ، وهو ضرب من ضروب البديع . 4 - قوله { عَلِيمٌ } من صيغ المبالغة ، ومعناه الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء ، قال أبو حيان : وصف تعالى نفسه بـ ( عالم وعليم وعلام ) وهذان للمبالغة ، وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في ( علاّمة ) ولا يجوز وصفه به تعالى . الفوَائِد : الأولى : قال الزمخشري : التمثيل إِنما يصار إِليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إِلا أمراً تستدعيه حال المتمثَّل له ، ألا ترى إِلى الحق لما كان أبلج واضحاً جلياً ، كيف تمثَّل له بالضياء والنور ؟ وإِلى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثّل له بالظلمة ؟ ولما كان حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى ليس أحقر منها وأقل ، لذلك ضرب لها المثل ببيت العنكبوت في الضعف والوهن { كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً } [ العنكبوت : 41 ] وجعلت أقل من الذباب وأخسَّ قدراً { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [ الحج : 73 ] والعجبُ منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور ، والحشرات والهوام ، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة في حواضرهم وبواديهم . الثانية : قدّم الإِضلال على الهداية { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفتُّ في أعضادهم ، وأوثرت صيغة الاستقبال إِيذاناً بالتجدد والاستمرار ، أفاده العلامة أبو السعود . الثالثة : قال ابن جزي في التسهيل : وهذه الآية { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض ، وقوله تعالى { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] ظاهره خلاف ذلك ، والجواب من وجهين : أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء ، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض ، والآخر تكون { ثُمَّ } لترتيب الأخبار .