Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 23-46)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى ما حلَّ بالكفار من العذاب والدمار ، أردفه بذكر قصة موسى مع فرعون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من الأذى والتكذيب ، وبياناً لسنة الله تعالى في إهلاك الظالمين ، ثم ذكر موقف مؤمن آل فرعون ونصيحته لقومه ، وهي مواقف بطولية مشرِّفة في وجه الطغيان . اللغَة : { ٱسْتَحْيُواْ } استبقوا بناتهم على قيد الحياة { ضَلاَلٍ } ضياع وبطلان { عُذْتُ } اعتصمت وتحصنتُ والتجأت { ظَاهِرِينَ } غالبين مستعلين { بَأْسِ ٱللَّهِ } عذابه وانتقامه { دَأْبِ } عادة وشأن { ٱلتَّنَادِ } يوم القيامة للنداء فيه إلى المحشر ، أو لمناداة الناس بعضهم بعضاً قال أمية بن الصَّلت : @ وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكَّانُها حتى التَّنادِ @@ { عَاصِمٍ } مانع ودافع { صَرْحاً } قصراً وبناءً عظيماً عالياً { تَبَابٍ } خسران وهلاك { لاَ جَرَمَ } حقاً ولا محالة { حَاقَ } نزل وأحاط . التفسِير : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات ، والدلائل الواضحات ، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ } أي إلى فرعون الطاغية الجبار ، ووزيره هامان ، وقارون صاحب الكنوز والأموال قال في البحر : وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر ، ولأنهما أشهر أتباع فرعون { فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات ، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله ، وصيغة كذَّاب للمبالغة { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا } أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه ، والتي أيَّده الله بها { قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ } أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا ، واستبقوا الإِناث للخدمة قال الصاوي : وهذا القتلُ غيرُ الأول ، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد ، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان ، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه ، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان ، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم { وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسرانٍ وهلاك ، لأن الله لا يُنجح سعيهم { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ } أي قال فرعون الجبار : اتركوني حتى أقتلْ لكم موسى { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي وليناد ربه حتى يخلصه مني ، وإِنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول : لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى ، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إِنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه قال أبو حيان : والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ ، وأن ما جاء به آياتٌ باهرة وما هو بسحر ، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يثل عرشه ويهدم ملكه ، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك ، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذين يكفّونه ، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ } أي إني أخشى أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم ، ويكون بسببه الهرجُ ، وهذا كما قال المثل " صار فرعون واعظاً " { وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ } أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله ، لا يصدِّق بالآخرة قال في التسهيل : وإِنما قال { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره ، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } قال المفسرون : كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون ، فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أن قال : ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره ؟ { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } أي إن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه قال القرطبي : ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه ، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف ، واستنزالاً عن الأذى { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدكم به من العذاب { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال ، مبالغ في الكذب على الله قال الإِمام الفخر : وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات ، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى ، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية ، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته ، بل يبطله ويهدم أمره وقال في البحر : هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا " استدراج المخاطب " وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى ، وقومه على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متعصبٌ له ، وأنه من أتباعه ، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه ، ثم قال { أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } ولم يقول رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيُ الله ، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله ، ثم أتبعه بقوله { وَإِن يَكُ كَاذِباً } فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله { وَإِن يَكُ صَادِقاً } ولم يقل هو صادق وكذلك قال { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له ، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه ، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } وفيه تعريضٌ بفرعون ، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله ، إذْ ادعى الألوهية والربوبية { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ } كرر النصح مع التلطف والمعنى : أنتم غالبون عالون بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله قال الرازي : وإِنما قال { يَنصُرُنَا } و { جَآءَنَا } لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم ، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه . . وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم ، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ } أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوع وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم { وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي لا يعاقب العباد بدون ذنب قال الزمخشري : أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم ، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم ، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم ، كان عن الظلم أبعد { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر ، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي تولون منهزمين من هول عذاب جهنم قال المفسرون : إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم ، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقفهم جنهم { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي ووالله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } أي فلم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله قال المفسرون : المراد آباؤكم وأصولكم { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهيّ والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف قال أبو حيان : وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف ، كيف وما زالوا في شك منه ، وإِنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق ، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان ، شاكٍّ في الدين ، بعد وضوح الحجج والبراهين { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير برهان قال في البحر : عدل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الإِسم الغائب ، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم ، لئلا يفجأهم بالخطاب ، وفي قوله { كَبُرَ مَقْتاً } ضربٌ من التعجب والاستعظام لجدالهم ، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان ، متجبرٍ على العباد ، حتى لا يعقل الرشاد ، ولا يقبل الحق ، وإِنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما ، وهو سلطان الأعضاء ، فمتى فسد فسدت { وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً } أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً ، وبناءً شامخاً منيفاً قال القرطبي : لما قال مؤمن آل فرعون ما قال ، وخاف فروع أن يتمكن كلامه في قلوب القوم ، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد ، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح { لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ * أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها ، وكررها للتفخيم والبيان { فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري قال أبو حيان : وبلوغُ أسباب السماوات غير ممكن ، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه ، ولما قال { فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } { وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ } أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً { وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى { وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك ، خسر ملكه في الدنيا بالغرق ، وفي الآخرة بالخلود في النار { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون ، ودعا قومه إلى الإِيمان بالله الواحد الأحد ، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة ، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية ، وحذَّرهم من عذاب الله ومعنى الآية : امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة - طريق الجنة - { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً ، لا ثبات له ولا دوام { وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } أي وإِن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود ، التي لا زوال لها ولا انتقال منها ، فإِما خلود في النعيم ، أو خلود في الجحيم قال القرطبي : ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا } أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة ، رحمة منه تعالى بالعباد { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم ، ويعطون جزاءهم بغير تقدير ، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً ، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات قال ابن كثير : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي لا يتقدر بجزاء ، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً ، لا انقضاء له ولا نفاد { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان ، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار ؟ والاستفهام للتعجب كأنه يقول : أنا أتعجب من حالكم هذه ، أدعوكم إلى النجاة والخير ، وتدعونني إلى النار والشر ؟ ثم وضَّح ذلك بقوله { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي تدعونني للكفر بالله ، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربويته ، وما ليس بإِلهٍ كفرعون { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ } أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد ، العزيز الذي لا يُغلب ، الغفَّار لذنوب العباد { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } أي حقاً إنما تدعونني لعبادته { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ } أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يسْتجيب لنداء داعيه ، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ } أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيخلَّدون في النار { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب ، وهو تهديد ووعيد { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي أتوكل على الله ، وأسلّم أمري إليه قال القرطبي : وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله { إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أي مطلع أعمالهم ، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } أي فنجاه الله من شدائد مكرهم ، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } أي ونزل بفرعون وجماعته أسوأ العذاب ، وهو الغرق في الدنيا ، والحرق في الآخرة ، ثم فسَّره بقوله { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } أي النار يُحرقون بها صباحاً ومساء قال المفسرون : المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } أي ويوم القيامة يقال للملائكة : ادخلوا فرعون وقومه نار جهنم التي هي أشد من عذاب الدنيا .