Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-21)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً ، مباركاً ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ، لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما يشاء قادر ، فقال : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران ، من سلالة داود عليه السلام ، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران ، وأنها نذرتها محررة ، أي تخدم مسجد بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات ، المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب ، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ، فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف ، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران ، فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة البالغة - أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام ، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أي اعتزلتهم ، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس ؛ عن ابن عباس ، قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } قال : خرجت مريم مكاناً شرقياً فصلوا قبل مطلع الشمس . وعنه قال : إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة ، لقول الله تعالى : { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } واتخذوا ميلاد عيسى قبلة ، وقال قتادة : { مَكَاناً شَرْقِياً } شاسعاً متنحياً ، وقوله { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } أي استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي على صورة إنسان تام كامل . قال مجاهد والضحّاك { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } : يعني جبرائيل عليه السلام ، وهذا هو ظاهر القرآن ، قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر ، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله ، قال أبو وائل : قد علمت أن التقي ذو نهية ، حين قالت : { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها ، لست مما تظنين ، ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك { لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } ، { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي فتعجبت مريم من هذا ، وقالت كيف يكون لي غلام ، أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور . ولهذا قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } والبغي هي الزانية ، { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت ، إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً ، وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ، ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم { وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ، نبياً من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ آل عمران : 45 ] أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته . قال ابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال ، قالت مريم عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس ، سبّح في بطني وكبّر ، وقوله : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته ، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ، وقال : { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] ، قال محمد بن إسحاق { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } : أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد ، واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره ، والله أعلم .