Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 22-23)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى مخبراً عن مريم ، أنها لما قال لها جبريل ما قال ، استسلمت لقضاء الله تعالى ، فذكر غير واحد من علماء السلف ، أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد ، بإذن الله تعالى ، فلما حملت به ضاقت ذرعاً ، ولم تدر ماذا تقول للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا ، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم ، فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أني حبلى ، وذكرت لها شأنها ، وما كان من خبرها ، وكانوا بيت إيمان وتصديق ، قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة ، وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك ، قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام ، لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص . ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام ، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر ، وقال عكرمة : ثمانية أشهر ، وقال ابن جريج ، عن ابن عباس ، وسئل عن حمل مريم ، قال : لم يكن إلاّ أن حملت فوضعت . والمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها ، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس ، يقال له يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرَّض لها في القول ، فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليَّ ، قالت : وما هو ؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حبّ ؟ وهل يكون زرع من غير بذر ؟ وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت : نعم ، وفهمت ما أشار إليه ، أما قولك هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر ، وهل يكون ولد من غير أب ، فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم ، فصدقها ، وسلم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكاناً قصياً ، أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها . قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم ، وتغير اللون ، حتى فطر لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل ، فقالوا : إنما صاحبها يوسف ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس ، واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا تراه . وقوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } أي فاضطرها وألجأها إلى جذع النخلة ، في المكان الذي تنحت إليه . وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس ، وقال وهب بن منبه : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية يقال لها بيت لحم ، وهذا هو المشهور ، الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقوله تعالى إخباراً عنها : { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } أي قبل هذا الحمل { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أي لم أخلق ولم أك شيئاً قاله ابن عباس ، وقال قتادة { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } : أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ، ولا يدري الناس من أنا . وقال ابن زيد : لم أكن شيئاً قط ، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلاّ عند الفتنة عند قوله : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] .