Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 27-33)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وأن لا تكلم أحداً من البشر ، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها ، فسلمت لأمر الله عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله . فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً ، وقالوا { يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي أمراً عظيماً ، { يٰأُخْتَ هَارُونَ } أي يا شبيهة هارون في العبادة ، { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك ؟ قال السدي : قيل لها { يٰأُخْتَ هَارُونَ } أي أخي موسى وكانت من نسله ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللمضري : يا أخا مضر ، وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة . وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم . كما قال الإمام أحمد ، عن المغيرة بن شعبة قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرأون { يٰأُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " " . وقال ابن جرير ، عن قتادة قوله { يٰأُخْتَ هَارُونَ } الآية قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته ، وليس بهارون أخي موسى ، ولكنه هارون آخر ، قال وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل . وقوله : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها ، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها هذا صائمة صامتة ، فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ظانين أنه تزدري بهم وتلعب بهم { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } ؟ قال السدي : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم ؟ { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية لربه ، وقوله : { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } تبرئة لأمّه مما نسبت إليه من الفاحشة ، قال نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من فمه ، واتكأ على جنبه الأيسر وقال : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } إلى قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } . وقوله تعالى : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } ، قال مجاهد : وجعلني معلماً للخير ، وفي رواية عنه : نفاعاً ، وقوله : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . وقوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } أي وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة ربه لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما قال تعالى : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك ، قال سفيان الثوري : الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب ، وقال بعض السلف : لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلاّ وجدته جباراً شقياً ، ثم قرأ : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } . وقوله : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } إثبات منه لعبوديته لله عزّ وجلّ ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد ، صلوات الله وسلامه عليه .