Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-22)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود ، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، بأن جعل لهم الأرض فراشاً : أي مهداً كالفراش ، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات . { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } وهو السقف ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] ، { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } والمرادُ به السحاب هٰهنا في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم . ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ، ولهذا قال : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال ، قلت : " يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم عند الله ؟ قال : " أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك " الحديث . وكذا حديث معاذ : " أتدري ما حق الله على عباده ؟ " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " لا يقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان " وعن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " ما شاء الله وشئت ، فقال : " أجعلتني لله نِدّاً ؟ قل ما شاء الله وحده " ، وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم . قال ابن عباس ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم . وعنه أيضاً { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه لا رب لكم يرزقكم غيره . وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه . قال أبو العالية { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } أي عدلاء شركاء ، وقال مجاهد { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : تعلمون أنه آلٰه واحد في التوراة والإنجيل . ( ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة ) . روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وأنه كاد أن يبطىء بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن ؟ فقال : يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشُّرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن . أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده ، فأيكم يسّره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . وأمركم بالصدقة فإن مَثَل ذلك كمثل رجلٍ أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه . وأمركم بذكر الله كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجل طلبه العدوّ سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله " قال ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " وأنا آمركم بخمس ؛ الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله . فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم " ، قالوا : يا رسول الله وإن صام وصلّى ، فقال : " وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمّاهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله " " هذا حديث حسن . وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده ، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عِلم قدرةَ خالقها وحكمته ، وعلمه وإتقانه ، وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماءٌ ذات أبراج ، وأرضٌ ذات فجاج ، وبحارٌ ذات أمواج ! ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟ . وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات ، والأصوات ، والنغمات . وعن أبي حنيفة أن ( بعض الزنادقة ) سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ! فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ؟ ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه . وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال : هذا ورق التوت طعمُه واحدٌ تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم . وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبقرة والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً ، وتأكله الظباء فيخرج منه المسك وهو شيء واحد ، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هٰهنا حصنٌ حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكلٍ حسن وصوت مليح . يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة . وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد : @ تأملْ في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيونٌ من لجين شاخصاتٌ بأحداق هي الذهب السبيك على قضيب الزبرجد شاهدات بأنَّ الله ليس له شريك @@ وقال ابن المعتز : @ فيا عجباً كيف يعصي الإلـه أم كيف يجحده الجاحـد وفي كل شيء لـه آيـة تدل على أنه واحـد @@ وقال آخرون : من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظرَ إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها ، كما قال تعالى : { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] ، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع ، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان ، مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة ، وحكمته ورحمته بخلقه ، ولطفه بهم وإحسانه إليهم ، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً .