Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 23-24)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم شرع تعالى : في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطباً للكافرين : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، فأتوا بسورة من مِثْل ما جاء به ؛ إن زعمتم أنه من عند غير الله ، فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك . قال ابن عباس { شُهَدَآءَكُم } : أعوانكم ، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ، وقد تحدّاهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القَصَص : { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] . وقال في سورة سبحان : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] ، وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] ، وقال في سورة يونس : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي شك { مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة . ورجح ذلك بوجوه من أحسنها : أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم ، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [ هود : 13 ] ، وقوله : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] ، وقال بعضهم : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أُمّيٌّ مثله ، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم ، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } و ( لن ) لنفي التأبيد في المستقبل ، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى ، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ، ولا يمكن ، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية ، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] فأحكمت ألفاظه ، وفصلت معانيه ، أو بالعكس على الخلاف ، فكلٌّ من لفظه ومعناه فصيح لا يُحاذي ولا يُداني . فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأحكام ، فكلُّه حق وصدق ، وعدل وهدى ، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر ( إن أعذبه أكذبه ) وتجد في القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً ، إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد ، وسائرها هذر لا طائل تحته . وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وأجمالاً ، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرَّر حلا وعلا ، لا يخلُق عن كثرة الرد ، ولا يملُّ منه العلماء . وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ؟ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوِّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمٰن كما قال في الترغيب : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ } [ الإسراء : 68 ] ، { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16 - 17 ] ، وقال في الزجر : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة . وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : يا أيها الذين آمنوا فأَرْعها سمعك فإنها خيرٌ يأمر به أو شر ينهى عنه ، ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم ، والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهَّدت في الدنيا ورغَّبت في الأُخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم ، وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم نابعاً يوم القيامة " ، وقوله : صلى الله عليه وسلم : " وإنما كان الذي أوتيتُه وحياً " أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم ، وله عليه الصلاة السلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة . وقوله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أمَّا الوُقود فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] والمراد بالحجارة هٰهنا هي حجارة الكبريت ، العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرّاً إذا حميت أجارنا الله منها ، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود { ٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } : أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار ، وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقيل : المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] الآية . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها ، قال : ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها . وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أن الضمير عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان . و { أُعِدَّتْ } أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، وقد استدل كثير من أئمة السنّة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى : { أُعِدَّتْ } أي أرصدت وهيئت ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : " تحاجت الجنة والنار " ، ومنها : " استأذنت النار ربَّها فقالت ربِّ أكلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنَفَسين : نفسٍ في الشتاء ، ونَفَسٍ في الصيف " ، وحديث ابن مسعود : سمعنا وَجْبَة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها " وهو مسند عند مسلم ، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس . ( تنبيه ينبغي الوقوف عليه ) قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } وقوله في سورة يونس : { بِسُورَةٍ مِّثْلِه } [ الآية : 38 ] يعم كل سورة في القرآن ، طويلة كانت أو قصيرة ، لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً . وقد قال الرازي في تفسيره : فإن قيل قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر ، وقل يا أيها الكافرون ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن ، فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين : ( قلنا ) : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزاً ، فعلى التقديرين يحصل المعجز . هذا لفظه بحروفه ، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة ، قال الشافعي رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ]