Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 99-113)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أنه بعدما نصره الله تعالى على قومه ، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة ، هاجر من بين أظهرهم وقال : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } يعني أولاداً مطيعين يكونون عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم ، قال الله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } هذا الغلام هو ( إسماعيل ) عليه السلام ، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل في نص كتابهم ، أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة ، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده ، وفي نسخة أخرى : بكره ، فأقحموا هٰهنا كذباً وبهتاناً ( إسحاق ) ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم ، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم ، وإسماعيل أبو العرب ، فحسدوهم ، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو ( إسحاق ) وحكي ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً ، وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مُسَلَّماً من غير حجة ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } ، ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] ، وقال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي يولد في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً ؟ وإسماعيل وصف هٰهنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام ، وقوله تعالى { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه ، قال ابن عباس ومجاهد : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } بمعنى شب وارتحل ، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل { قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وحي ، ثم تلا هذه الآية : { قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } ؟ ، وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } أي امض لما أمرك الله من ذبحي ، { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزّ وجلّ ، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ، ولهذا قال الله تعالى : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 54 ] ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى ( إبراهيم ) على الذبح و ( الولد ) شهادة الموت ، وقيل : { أَسْلَمَا } يعني استسلما وانقادا ، إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه ، ومعنى { تَلَّهُ لِلْجَبِينِ } : أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه ، قال ابن عباس { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أكبه على وجهه . عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما أمر إبراهيم عليه السلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه ، فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى ، فرماه بسبع حصيات ، وثم تلَّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض : فقال له : يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه : { أَن يٰإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } فالتفت إبراهيم ، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين . وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح ، وذكر السدي وغيره أنه أمرَّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً ، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ، ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك { قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } ، وقوله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] ، قال تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك ، مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [ النجم : 37 ] ، وقوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } عن علي رضي الله عنه قال : بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة ، حتى شقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر ، قال مجاهد : ذبحه بمنى عند النحر ، وقال الثوري ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : وعل ، وقال الحسن : ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى ، أهبط عليه من ثبير . ( ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به ) تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام ، وروى مجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ( إسماعيل ) عليه الصلاة والسلام ، وروى ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أنه قال : المفدى إسماعيل عليه السلام ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وروى مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الذبيح إسماعيل ، وقال مجاهد : هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة ، وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم ( إسماعيل ) عليه السلام ، قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه ( إسماعيل ) وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى ، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } ، ويقول الله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] يقول : بابن ، وابن ابن ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل ، قال ابن إسحاق ، سمعته يقول ذلك كثيراً ، وقال ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً ، فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم ، فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك ، قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر : أيُّ ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ، ويزعمون أنه إسحاق ، لأن إسحاق أبوهم ، والله أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عزّ وجلّ ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح ، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال : إسماعيل . وقال ابن أبي حاتم ، وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، قال : وروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل ، وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } [ الذاريات : 28 ] ، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم ، بل هو بعيد جداً ، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه ( إسماعيل ) أثبت وأصح وأقوى ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر ، وقوله تعالى : { نَبِيّاً } أي سيصير منه نبي صالح ، قال ابن عباس : بشر بنبوته ، حين ولد ، وحين نبىء ، وقال قتادة في قوله { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } قال : بعدما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه ، وقوله تعالى : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } كقوله تعالى : { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ هود : 48 ] .