Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 17-33)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر ، { وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } يعني موسى الكليم عليه الصلاة والسلام { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ } ، كقوله عزّ وجل : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } [ طه : 47 ] الآية ، وقوله جلّ وعلا : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي مأمون على ما أبلغكموه ، وقوله تعالى : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ } أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه ، كقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، { إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات ، { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } قال ابن عباس : هو الرجم باللسان وهو الشتم ، وقال قتادة : الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قولٍ أو فعل ، { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا ، فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، وأقام حجج الله تعالى عليهم ، كل ذلك وما زادهم إلاّ كفراً وعناداً ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم ، كما قال تبارك وتعالى : { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا } [ يونس : 88 - 89 ] ، وهكذا قال هٰهنا { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم ، من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ، ولهذا قال جلّ جلاله : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } [ طه : 77 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } ، وذلك أن موسى عليه الصلاة السلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون ، فلا يصل إليهم ، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً ، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه ، وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى ، قال ابن عباس : { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } كهيئته وامضه ، وقال مجاهد { رَهْواً } طريقاً يبساً كهيئته ، يقول لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم ، ثم قال تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ } والمراد بها الأنهار والآبار { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الحسنة ، { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } أي عيشة كانوا يتفكهون فيها ، فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا ، مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة ، وفارقوا الدنيا ، وصاروا إلى جهنم وبئس المصير واستولى على البلاد المصرية والممالك القبطية بنو إسرائيل ، كما قال تبارك وتعالى : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وقال في الآية الأخرى : { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] وقال عزّ وجلّ هٰهنا : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } وهم بنو إسرائيل كما تقدم . وقوله سبحانه وتعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم ، روى الحافظ الموصلي ، عن أَنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد إلاّ وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " ، وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ، ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ؛ إنه ليس من عبد إلاّ له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء ، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ، ولا عمل يصعد في السماء ، ثم قرأ علي رضي الله عنه : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } . وقال ابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رضي الله عنهما رجلٌ فقال : يا أبا العباس ، أرأيت قول الله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضي الله عنه : نعم ، إنه ليس أحد من الخلائق إلاّ وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه ، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزَّ وجلَّ فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض . وقال سفيان الثوري : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً ، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلاّ بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً ، فقلت له : أتبكي الأرض : فقال : أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ، وقال قتادة : كانوا أهون على الله عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم ، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة ، وقوله تعالى : { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [ القصص : 4 ] ، وقوله جلَّت عظمته : { فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] ، { مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه ، وقوله جلّ جلاله : { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } قال مجاهد : على من هم بين ظهريه ، وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم ذلك ، وكان يقال : إن لكل زمان عالماً ، وهذا كقوله عزّ وجلّ لمريم عليها السلام { وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] أي في زمنها ، فإن خديجة رضي الله عنها أفضل منها ، أو مساوية لها في الفضل ، وكذا آسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ، وقوله جلّ جلاله : { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ } الحجج والبراهين وخوارق العادات { مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } أي اختيار ظاهر جلي لمن اهتدى به .