Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 38-40)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة ، وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية ، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً ، بل أخذوا بمجرد السرقة ، وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " ، وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة ، فعند الإمام مالك رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً ، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً " ، ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً " قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا ، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذا الطريق . وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي ، فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع ، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثني عشر درهماً ، وفي لفظ للنسائي : " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن " قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار . فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم . وأما الإمام أبو حنيفة وزفر وسفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب به عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة ، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن " وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات . وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما ، يحكي هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي رحمهم الله تعالى . وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلاّ في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً ، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله ، وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة ( أحدها ) : أنه منسوخ بحديث عائشة ، ( والثاني ) : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه ، ( والثالث ) : أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة ، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعراً دل على جهله ، وقلة عقله فقال : @ يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار ؟ تناقض مالنا إلاّ السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار @@ ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم ، وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، ولما خانت هانت ، ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ، ولهذا قال : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك ، { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } أي في انتقامه ، { حَكِيمٌ } أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره . ثم قال تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : متى قطع ، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو : " أن امرأة سرقت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقطعوا يدها " ، فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار ، فقال : " اقطعوا يدها " ، فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : " نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " ، فأنزل الله في سورة المائدة : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين . وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي . وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة . ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد ، { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .