Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 41-44)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عزَّ وجلَّ { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ، أي أظهروا بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون ، { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي مستجيبون له منفعلون عنه ، { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد ، وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك ، { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } . قيل : نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً ، وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن حكم بالدية فاقبلوه ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه . والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه ، واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم ، والإركاب على حمار مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك . وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة " أخرجاه ، وهذا لفظ البخاري . وعند مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحممها ونحملها ، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال : { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] قال فجاءوا بها فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليرفع يده ، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه " عن البراء بن عازب قال : " مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمّم مجلود ، فدعاهم ، فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا : الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " ، قال : فأمر به فرجم " ، قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } أي يقولون : ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال في اليهود ، إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] قال في اليهود : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] قال : في الكفار كلها ، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري . فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله عزَّ وجلَّ إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحده ، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة . فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أي من قبوله واتباعه . قال الله تعالى : { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد ، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له ؟ ثم قال لنبيه : { فَإِن جَآءُوكَ } أي يتحاكمون إليك { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم ، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم . قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } أي بالحق والعدل ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } . ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون إنهم مأمورون بالتمسك به أبداً ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم ، فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ، { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء العبّاد ، والأحبار وهم العلماء { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوا منهم وخافوا مني { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما . ( سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات ) قال أبو جعفر بن جرير ، عن عكرمة عن ابن عباس : إن الآيات التي في المائدة قوله : { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } - إلى { ٱلْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت في الدية في ( بني النضير ) و ( بني قريظة ) ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء ، والله أعلم أي ذلك كان ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي ، ثم قال ابن جرير ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير ، وكانت النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به ، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودى بمائة وسق من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إليه ، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } ورواه أبو داود والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم في المستدرك . وقد روى العوفي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم . ولهذا قال بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } [ المائدة : 45 ] إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم . وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال البراء بن عازب ، وابن عباس ، والحسن البصري ، وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب . زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة ، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم ، قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها ، وقال السدي : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } يقول : من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين . وقال ابن عباس قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير ، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب ، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب . وقال ابن جرير عن الشعبي { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال : هذا في المسلمين ، { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] قال : هذا في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] قال : هذا في النصارى ، وقال الثوري عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال وكيع عن طاووس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .