Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 3-3)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة ، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن ، فلهذا حرمها الله عزَّ وجلَّ ، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ؟ فقال : " هو الطهور ماؤه ، والحل ميتته " وقوله : { وَٱلْدَّمُ } يعني به المسفوح كقوله : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] ، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم ، فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح . وعن عائشة قالت : إنما نهي عن الدم السافح ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو ( صدي بن عجلان ) قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم ، فاجتمعوا عليها يأكلونها ، فقالوا : هلمَّ يا صدي ، فكل ، قال قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم ، فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } الآية ، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق : @ وإياك والميتات لا تقربَنَّها ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا @@ أي لا تفعل فعل الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه ، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة . قوله تعالى : { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } يعني إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق " الظاهرية " في جمودهم هٰهنا ، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [ الأنعام : 145 ] يعنون قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد . وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه " ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ! ؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " ، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : " لا ، هو حرام " وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم : نهانا عن الميتة والدم . وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وقوله تعالى : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق ، إما قصداً ، وإما اتفاقاً ، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام ؛ وأما { ٱلْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت ، قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها . وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال ، قلت : يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ، قال : " إذا رميت بالمعراض فخرق ، فكله ، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " ، ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله ، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله : ( أحدهما ) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ ، ( والثاني ) : أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم . ( فإن قيل ) : فلم لا فصل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام ؟ ( فالجواب ) : أن ذلك نادر لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ، فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلاً ، والله أعلم . ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : " إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " ، وهذا صحيح ثابت في الصحيحين ، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين ، فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب . حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس ، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه ، وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة ، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " . فأما الجوارح من الطيور ، فنص الشافعي على أنها كالكلب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين ، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير ، وأما { ٱلْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل ، قال ابن عباس : المتردية التي تسقط من جبل ، وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر ، وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر ، وأما { ٱلنَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها ، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة ، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : عين كحيل ، وكف خضيب ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة ، وأما هذه فقال بعض النحاة إنما استعمل فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم طريقة طويلة ، وقال بعضهم : إنما أتى بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف عين كحيل وكف خضيب ، لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام . وقوله تعالى : { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام ، وإن كان قد سال منها الدم ، ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع ، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك ، فحرم الله ذلك على المؤمنين . وقوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته ، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } . وقال ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي ، وقال بن أبي حاتم عن علي في الآية قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل ، وقال ابن جرير ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها ، وهكذا روي عن طاووس والحسن : أن المُذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال ؛ وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكى ، أي شيء يذكى منها . وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ فقال : إن كان قد بلغ السحر فلا أرى أن يؤكل ، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً ، قيل له : وثب عليه فدق ظهره ، فقال : لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه ، قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ، فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل ، هذا مذهب مالك رحمه الله ؛ وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله أعلم . وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال ، " قلت : يا رسول الله إنا لاقو العدو غداً وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب ؟ فقال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر . وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " ، وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً ، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح : " ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " وفي الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال ، " قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلاّ من اللبة والحلق ؟ فقال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " وهو حديث صحيح ، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة . وقوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } كانت النصب حجارة حول الكعبة ، قال ابن جريج : وهي ثلثمائة وستون نصباً ، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله . فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، وينبغي أن يحمل هذا على هذا ، لأنه قد تقدم تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله . وقوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام ، واحدها زلم ، وقد تفتح الزاي فيقال : زلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب إفعل ، وعلى الآخر لا تفعل والثالث غفل ليس عليه شيء ، ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والثالث غفل ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله ، أو النهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد ، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام ، هكذا قرر ابن جرير ، وعن ابن عباس { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } قال : والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور ، وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم ، فلما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه ، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام فقال : " قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً " وفي الصحيحين أن ( سراقة بن مالك بن جعشم ) لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا فخرج الذي أكره : لا تضرهم ، قال : فعصيت الأزلام ، واتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية ، وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم ، وكان كذلك ، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك . { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك ؛ وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه ، كما روى الإمام أحمد والبخاري عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : " إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك . وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم ! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه ، واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به " . وقوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } قال ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم ، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم " ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلاّ الله ، فقال : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأؤيدكم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة . وقوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلاّ ما أحله ولا حرام إلاّ ما حرمه ، ولا دين إلاّ ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ، ولهذا قال تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه ، وقال ابن عباس قوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً . وقال السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . وقال ابن جرير : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً . لما نزلت { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك " ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص ، فقال : " صدقت " ، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء " ، وقال الإمام أحمد : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية ؟ قال قوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عشية عرفة في يوم جمعة . ولفظ البخاري قال ، قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة ، قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية ، وقال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ، فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه : في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد . وعن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وقوله تعالى : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناوله ، والله غفور رحيم له ، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند عن ابن عمر مرفوعاً قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته " لفظ ابن حبان ؛ وفي لفظ لأحمد : " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " ، ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوباً ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال ، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال ؛ كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد قال الإمام أحمد ، عن أبي واقد الليثي ، أنهم قالوا : " يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها " ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " يعني به الغداء " وما لم تغتبقوا " يعني به العشاء " أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها " فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف ، يعني قوله : " أو تحتفئوا " على أربعة أوجه : تحتفئوا بالهمزة ، وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء ، وتحتفوا بتشديد الفاء ، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز ، كذا رواه في التفسير . ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : " ما طعامكم ؟ " قلنا : نصطبح ونغتبق . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة ، قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك وأبي الجوع ، وأحل لهم الميتة على هذه الحال . تفرد به أبو داود ، وكأنهم يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم . ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن جابر عن سمرة : أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت له امرأته : انحرها ، فأبى ، فنفقت ، فقالت له امرأته : أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله ، قال : لا ، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : " هل عندك غنى يغنيك " قال : لا ، قال : " فكلوها " ، قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك . وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها ، والله أعلم . وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له ، وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الآية : 173 ] ، وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي ، والله أعلم .