Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 5-18)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علَّمه { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } وهو جبريل عليه الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } [ التكوير : 19 - 20 ] . وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ } أي ذو قوة ، قاله مجاهد ، وقال ابن عباس : ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن ، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة ، وقد ورد في الحديث الصحيح : " لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مِرّة سوي " ، وقوله تعالى : { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل عليه السلام { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قال عكرمة { ِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } الذي يأتي منه الصبح ، وقال مجاهد : هو مطلع الشمس ، قال ابن مسعود : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك قوله : { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } " وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ ، روى الإمام أحمد ، عن عبد الله أنه قال : " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته ، وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم " . وقوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي يقدرهما إذا مدّا ، قال مجاهد وقتادة . وقوله : { أَوْ أَدْنَىٰ } هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة ، وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها ، فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ، وهكذا هذه الآية { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام ، هو قول عائشة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى . وروى مسلم في " صحيحه " عن ابن عباس أنه قال : " رأى محمد ربه بفؤاده مرتين " فجعل هذه إحداهما ، وجاء في حديث الإسراء : " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى " ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أُخْرَى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ، ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض ، وقال ابن جرير ، قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جبريل له ستمائة جناح " وروى البخاري ، عن الشيباني قال : سألت زراً عن قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } قال : حدثنا عبد الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح . فعلى ما ذكرناه يكون قوله : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى ، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل ؛ وكلا المعنيين صحيح ، وقوله تعالى : { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } قال مسلم ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قال : رآه بفؤاده مرتين ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره ، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ، وقول البغوي في " تفسيره " : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنَس والحسن وعكرمة فيه نظر ، والله أعلم . وروى الترمذي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [ الأنعام : 103 ] ؟ قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين . وقال أيضاً : لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم ، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين ، وقال مسروق : دخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء وقف له شعري ، فقلت : رويداً ، ثم قرأت : { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } ، فقالت : أين يذهب بك ؟ إنما هو جبريل ، من أخبرك أن محمداً رأى ربه ، أو كتم شيئاً مما أمر به ، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى : " { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } فقد أعظم على الله الفرية ، ولكنه رأى جبريل ؛ لم يره في صورته إلا مرتين ؛ مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد ، وله ستمائة جناح قد سد الأفق " وروى النسائي ، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد عليهم السلام ؟ وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي ذر قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال : " نورٌ أنّى أراه " " ؟ وفي رواية : " رأيت نوراً " ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت : نعم ، قال : قد رآه ، ثم قد رآه ، قال : فسألت عنه الحسن ، فقال : قد رأى جلاله وعظمته ورداءه " . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي عزّ وجلّ " ، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام ، كما رواه أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال ، قلت : لا ، فوضع يده بين كتفيَّ حتى وجدت بردها بين ثدييَّ - أو قال نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ، ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال ، قلت : نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات ، قال : وما الكفارات ؟ قال ، قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك : فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون ، وقال : والدرجات ، بذل الطعام وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام " . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الإسراء ، روى الإمام أحمد ، عن عامر قال : " أتى مسروق عائشة فقال : يا أُم المؤمنين هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ ؟ قالت : سبحان الله لقد قفَّ شعري لما قلت ! أين أنت من ثلاث ، من حدثكهن فقد كذب ؟ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ } الآية ، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب ، ثم قرأت { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين " ، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال : " كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " إنما ذاك جبريل " لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض " . وقال مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين ، وقوله تعالى : { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان ، وغشيها نور الرب ، وغشيها ألوان ما أدري ما هي . روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : " لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } قال : فراش من ذهب ، قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات " وعن مجاهد قال : " كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً ، فرآها محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه ، وقال ابن زيد : قيل يا رسول الله أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال : " رأيت يغشاها فراش من ذهب ، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله عزّ وجلّ " " وقوله تعالى : { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ } قال ابن عباس : ما ذهب يميناً ولا شمالاً ، { وَمَا طَغَىٰ } ما جاوز ما أمر به ، ولا سأل فوق ما أعطي ، وما أحسن ما قال الناظم : @ رأى جنة المأوى وما فوقها ولو رأى غيره ما قد رآه لتاها @@ وقوله تعالى : { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } كقوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا .