Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 36-36)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " الحديث . وعن ابن عمر قال : " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : " أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم " وقال سعيد بن منصور عن ابن عباس في قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كا قال في تحريم مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة " ، وهكذا قال هٰهنا : " إن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض " أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع الله ذلك في كتابه خلق السماوات والأرض ، وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله : " قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصدّيق في سنة تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء . وقوله تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضاً في الجاهلية تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة ، لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً ، وقوله : { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق في كتاب الله الأول ، قال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وقال ابن عباس في قوله : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال في الشهور كلها ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر ، فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم ، وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ، وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل ، وقال محمد بن إسحاق : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً كما فعل أهل الشرك ، وهذا القول اختيار ابن جرير ، وقوله : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } أي جميعكم { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةًْ } أي جميعاً { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } . وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين : ( أحدهما ) وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين ، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً ، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة ، كما ثبت في " الصحيحين " أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف ، فحاصرهم أربعين يوماً وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام ( القول الآخر ) : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] ، وقال : { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] ، وقال : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] الآية ، وأما في قوله : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] الآية ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق ، وغيرها قريباً من أربعين يوماً وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياماً ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم .