Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 20-23)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَيَقُولُونَ } ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم ، وهو معطوف على قوله { وَيَعْبُدُونَ } ، وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه . قيل والقائلون هم أهل مكة ، كأنهم لم يعتدّوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفي به دليلاً بيناً ومصدّقاً قاطعاً أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ، ونطلبها منه ، كإحياء الأموات ، وجعل الجبال ذهباً ، ونحو ذلك ؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال { فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ } أي أن نزول الآية غيب ، والله هو المختص بعلمه ، المستأثر به ، لا علم لي ولا لكم ، ولا لسائر مخلوقاته { فَٱنتَظِرُواْ } نزول ما اقترحتموه من الآيات { إِنّى مَعَكُم مّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ } لنزولها ، وقيل المعنى انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل . قوله { وَإِذَا أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَـٰتِنَا } لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً ، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضرّاء ، فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق ، وأدرّ عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار ، بعد أن مستهم الضرّاء بالجدب وضيق المعايش ، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها ، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضرّ ، وطعنوا في آيات الله ، واحتالوا في دفعها بكل حيلة ، وهو معنى المكر فيها . و " إذا " الأولى شرطية ، وجوابها { إذا لهم مكر } ، وهي فجائية ، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال { قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } أي أعجل عقوبة ، وقد دلّ أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً ، ولكن مكر الله أسرع منه . وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة ، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة ، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة ، كما قرّر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } قرأ يعقوب في رواية ، وأبو عمرو في رواية « يمكرون » بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية . والمعنى أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار ، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة ، فكيف يخفى على العليم الخبير ؟ وفي هذا وعيد لهم شديد ، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها ، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى ، فعقوبة الله كائنة لا محالة ، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدّمة وهي { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ } يونس 12 وفي هذه زيادة ، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض ، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر . { هُوَ ٱلَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً . ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم ، لينتفعوا بها ، ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ، ومعنى تسييرهم في البحر أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ، ويسر ذلك لهم ، ودفع عنهم أسباب الهلاك . وقد قرأ ابن عامر " وهو الذي ينشركم في البحر " بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله { فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلأرْضِ } الجمعة 10 أي ينشرهم سبحانه في البحر ، فينجي من يشاء ويغرق من يشاء { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث ، وقد تقدّم تحقيقه { وَجَرَيْنَ } أي السفن بهم ، أي بالراكبين عليها ، و { حتى } لانتهاء الغاية ، والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة أوّلها الكون في الفلك ، والثاني جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة ، وثالثها فرحهم . والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة الأوّل { جَاءتْهَا } أي جاءت الفلك ريح عاصف ، أو جاءت الريح الطيبة أي تلقتها ريح عاصف ، والعصوف شدّة هبوب الريح ، والثاني { وَجَاءهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ } أي من جميع الجوانب للفلك ، والمراد جاء الراكبين فيها ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر ، والثالث { ظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي غلب على ظنونهم الهلاك ، وأصله من إحاطة العدوّ بقوم أو ببلد . فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا . وجواب إذا في قوله { إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ } قوله { جَاءتْهَا } إلى آخره ، ويكون قوله { دَّعَوَا ٱللَّهَ } بدلاً من ظنوا ، لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظنّ الهلاك وهو الباعث عليه ، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه ، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا ؟ فقيل دعوا الله ، وفي قوله { وَجَرَيْنَ بِهِم } التفات من الخطاب إلى الغيبة ، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة . وقال الرازي الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد ، كما أن عكس ذلك في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } الفاتحة 5 دليل الرضا والتقريب ، وانتصاب { مخلصين } على الحال أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب ، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء ، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده ، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك ، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه . وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطرّ يجاب دعاؤه وإن كان كافراً . وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة ، وما يشابهها ، فياعجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات ؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ، ولم يخلصوا الدعاء لله ، كما فعله المشركون ، كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع ، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ، وأين وصل بها أهلها ، وإلى أين رمى بهم الشيطان ، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم ؟ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ، ولا في بعضه ، من عباد الأوثان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واللام في { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ } هي اللام الموطئة للقسم ، أي قائلين ذلك ، والإشارة { مِنْ هَـٰذِهِ } إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر ، واللام في { لَنَكُونَنَّ } جواب القسم ، أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا ، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا ، وتنجينا منها وقيل إنَّ هذه الجملة مفعول { دعوا } . { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها ، وأجاب دعاءهم ، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم . بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين ، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر . وإذا في { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } هي الفجائية ، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق . والبغي هو الفساد ، من قولهم بغى الجرح إذا ترامى في الفساد ، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض ، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق ، بل لا يكون إلا بالباطل ، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم ، بل تمرّداً وعناداً لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة . قوله { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته . قرأ ابن إسحاق ، وحفص ، والمفضل بنصب { متاع } ، وقرأ الباقون بالرفع . فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة أي بغيكم وبال على أنفسكم ، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره ، ويكون { متاع } في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً ، وقيل إن { متاع } على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا ، وقيل هو مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا ، وقيل منصوب بنزع الخافض أي كمتاع وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول أي ممتعين ، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب . وأما من قرأ برفع { متاع } فجعله خبر المبتدأ أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ، ويكون { على أنفسكم } متعلق بالمصدر ، والتقدير إنما بغيكم على أمثالكم ، والذين جنسهم جنسكم ، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها ، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم ، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة وقيل ارتفاع متاع على أنه خبر ثان وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع . قال النحاس على قراءة الرفع يكون { بغيكم } مرتفعاً بالابتداء ، وخبره { متاع الحياة الدنيا } و { على أنفسكم } مفعول البغي ، ويجوز أن يكون { خبره على أنفسكم } ، ويضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا . انتهى . وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع ، بما يطول به البحث في غير طائل . والحاصل أنه إذا جعل خبر { المبتدأ على أنفسكم } ، فالمعنى أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي ، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه ، وإن جعل الخبر { متاع } ، فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال ، قريب الاضمحلال ، كسائر أمتعة الحياة الدنيا ، فإنها ذاهبة عن قرب ، متلاشية بسرعة ، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى . ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة ، مع وعيد شديد فقال { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } وتقديم الخبر للدلالة على القصر ، والمعنى أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله ، فيجازي المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه { فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ ، والمراد بذلك المجازاة ، كما تقول لمن أساء سأخبرك بما صنعت ، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع ، في قوله { فَٱنتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُم مّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ } قال خوفهم عذابه وعقوبته . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { وَإِذَا أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَـٰتِنَا } قال استهزاء وتكذيب . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } قال هلكوا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص ، ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة ، منهم عكرمة بن أبي جهل ، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ، ما ينجيني في البرّ غيره . اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنه عفواً كريماً ، فجاء فأسلم . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والخطيب في تاريخه ، والديلمي في مسند الفردويس ، عن أنس ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث هنّ رواجع على أهلها المكر ، والنكث ، والبغي " ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } فاطر 43 { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } الفتح 10 . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن أبي بكرة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبغ ولا تكن باغياً ، فإن الله يقول { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } " وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه المكر ، والبغي ، والنكث ، قال الله سبحانه { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } . أقول أنا وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دلّ القرآن على أنها تعود على فاعلها الخدع ، فإن الله يقول { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } البقرة 9 . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما " وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله .