Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 31-41)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيّن فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة ، من أحوال الرزق والحواس ، والموت والحياة ، والابتداء والإعادة ، والإرشاد والهدى ، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ، ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس ، فقال { قُلْ } يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد ، وبطلان ما هم عليه من الشرك { مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات والمعادن ، فإن اعترفوا حصل المطلوب ، وإن لم يعترفوا فلا بدّ أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما { أَم مَّنْ يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَـٰرَ } " أم " هي المنقطعة ، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال ، وخص السمع والبصر بالذكر ، لما فيهما من الصنعة العجيبة ، والقدرة الباهرة العظيمة ، أي من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة ، والخلقة الغريبة ، حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين . ثم انتقل إلى حجة ثالثة ، فقال { وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ } الإنسان من النطفة ، والطير من البيضة ، والنبات من الحبة ، أو المؤمن من الكافر { يَخْرُجُ ٱلْمَيّتِ مِنَ ٱلْحَىّ } أي النطفة من الإنسان ، أو الكافر من المؤمن ، والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيـي ويميت . ثم انتقل إلى حجة رابعة ، فقال { وَمَن يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } أي يقدّره ويقضيه ، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عمّ ما تقدّم وغيره { فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ } أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه ، إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم ، وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، أي الله يفعل ذلك ، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر أي تعلمون ذلك ، أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال . { فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ } أي فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق ، لا ما جعلتموهم شركاء له ، والاستفهام في قوله { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } للتقريع والتوبيخ ، إن كانت " ما " استفهامية ، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام ، والمعنى أيّ شيء بعد الحق إلا الضلال ، فإن ثبوت ربوبية الربّ سبحانه حق بإقرارهم ، فكان غيره باطلاً ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر ، وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما ؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر ، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، كذلك حقت كلمة ربك أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا أي خرجوا من الحق إلى الباطل ، وتمرّدوا في كفرهم عناداً ومكابرة ، وجملة { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة . قاله الزجاج أي حقت عليهم هذه الكلمة ، وهي عدم إيمانهم ، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام أي لأنهم لا يؤمنون . وقال الفراء إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف ، وقد قرأ نافع ، وابن عامر " كلمات ربك " بالجمع . وقرأ الباقون بالافراد . قوله { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم ، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد ، لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيناً ، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ، ولم يكابر ، كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره ، وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب ، إما على طريق التلقين لهم ، وتعريفهم كيف يجيبون ، وإرشادهم إلى ما يقولون ، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ، ومعرفة ما لديه ، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب ، فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة ، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق ، ومعنى { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } فكيف تؤفكون ، أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره . ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ } والاستفهام ها هنا ، كالاستفهامات السابقة ، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله { ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } الشعراء 78 وقوله { ٱلَّذِى أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } طه 50 وقوله { ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ } الأَعلى 2 ، 3 وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى ، وهما بمعنى واحد . روي ذلك عن الزجاج . والمعنى قل لهم يا محمد ، هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ، ويدعو الناس إلى الحق ؟ فإذا قالوا لا ، فقل لهم الله يهدي للحق دون غيره ، ودليل ذلك ما تقدّم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا ، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات ، وإرساله للرسل ، وإنزاله للكتب ، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام ، والأسماع والأبصار ، والاستفهام في قوله { أَفَمَن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } للتقرير وإلزام الحجة . وقد اختلف القراء في { لاَّ يَهِدِّى } فقرأ أهل المدينة إلا نافعاً « يهدي » بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين . قال النحاس والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به . قال محمد بن يزيد لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمي هذا اختلاساً . وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، في رواية بين الفتح والإسكان . وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن ، بفتح الياء والهاء وتشديد الدال . قال النحاس هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدى ، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء . وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش مثل قراءة ابن كثير ، إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر ، عن عاصم " يهديِ " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وذلك للاتباع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيـى بن وثاب " يهْديَ " بفتح الياء وإسكان الهاء ، وتخفيف الدال من هدي يهدي . قال النحاس وهذه القراءة لها وجهان في العربية ، وإن كانت بعيدة الأوّل أن الكسائي والفراء قالا إن { يهدي } بمعنى يهتدي . الثاني أن أبا العباس قال إن التقدير أم من لا يهدي غيره ، ثم تمّ الكلام ، وقال بعد ذلك { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } أي لكنه يحتاج أن يهدى ، فهو استثناء منقطع ، كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع أي لكنه يحتاج أن يسمع ، والمعنى على القراءات المتقدمّة أفمن يهدي الناس إلى الحق ، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدي به ، أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره ، فضلاً عن أن يهدي غيره ؟ والاستثناء على هذا ، استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال . قوله { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين ، أي أيّ شيء لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله ، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ ، و { كيف } في محل نصب بـ { تحكمون } ، ثم بيّن سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم ، وعلى أيّ شيء بنوه . وبأيّ شيء اتبعوا هذا الدين الباطل ، وهو الشرك فقال { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة . والمعنى ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله ، وجعلهم له أنداداً إلا مجرّد الظن ، والتخمين والحدس ، ولم يكن ذلك عن بصيرة ، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقرّبهم إلى الله ، وأنها تشفع لهم ، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط ، بل مجرد خيال مختل وحدس باطل ، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير أي إلا ظناً ضعيفاً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون . وقيل المراد بالآية إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً . والأوّل أولى . ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئاً ، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم ، وبه يتضح الحق من الباطل ، والظن لا يقوم مقام العلم ، ولا يدرك به الحق ، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء ، ويجوز انتصاب شيئاً على المصدرية ، أو على أنه مفعول به ، و { من الحق } حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان . قوله { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ } لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه ، شرع في تثبيت أمر النبوّة أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البيّنة ، والبراهين الواضحة ، يفترى من الخلق من دون الله ، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ ، وكيف يصح أن يكون مفترى ، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم أذهاناً { وَلَـٰكِنِ } كان هذا القرآن { تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب المنزلة على الأنبياء ، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ، ولا اتصل بمن له علم بذلك ، وانتصاب { تصديق } على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن ، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف ، أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه . قال الفراء ومعنى الآية ، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، كقوله { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } آل عمران 161 ، { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } التوبة 122 . وقيل إن { أن } بمعنى اللام ، أي وما كان هذا القرآن ليفترى . وقيل بمعنى لا أي لا يفترى ، قال الكسائي والفراء إن التقدير في قوله { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ } ولكن كان تصديق ، ويجوز عندهما الرفع ، أي ولكن هو تصديق . وقيل المعنى ولكن القرآن تصديق { ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله ، فجاء مصدّقاً لها . قيل المعنى ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن . قوله { وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ } عطف على قوله { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في { تصديق } ، والتفصيل التبيين ، أي يبين ما في كتب الله المتقدّمة ، والكتاب للجنس . وقيل أراد ما بين في القرآن من الأحكام ، فيكون المراد بالكتاب القرآن . قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الضمير عائد إلى القرآن ، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محلّ لها ، و { مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } خبر رابع أي كائن من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب ، أو من ضمير القرآن في قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي كائناً من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون متعلقاً بتصديق وتفصيل ، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة . قوله { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } الاستفهام للإنكار عليهم ، مع تقرير ثبوت الحجة ، و " أم " هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي بل أيقولون افتراه واختلقه . وقال أبو عبيدة أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه . وقيل الميم زائدة ، والتقدير أيقولون افتراه ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ . ثم أمره الله سبحانه أن يتحدّاهم حتى يظهر عجزهم ويتبيّن ضعفهم فقال { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه ، فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة ، وجودة الصناعة ، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن وبلاغة الكلام { وَٱدْعُواْ } بمظاهريكم ومعاونيكم { مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } دعاءه والاستعانة به ، من قبائل العرب ، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله . وقوله { مِن دُونِ ٱللَّهِ } متعلق بـ { ادعوا } أي ادعوا من سوى الله من خلقه { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في دعواكم أن هذا القرآن مفترى . وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها ، وأظهرها للعقول ، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية ، قال لهم هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ، ليس عليكم إلا أن تأتوا ، وأنتم الجمع الجمّ ، بسورة مماثلة لسورة من سوره ، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم ، أو من غيرهم من بني آدم ، أو من الجنّ ، أو من الأصنام ، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي ، فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي ، فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف ، والتنزّل البالغ ، بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة ، بل كاعوا عن الجواب ، وتشبثوا بأذيال العناد البارد ، والمكابرة المجردة عن الحجة ، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل ، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } فأضرب عن الكلام الأوّل ، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن ، قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه ، وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ، ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف ، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ، ويعلم مبناه ، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً . والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة ، والبرهان الواضح ، قبل أن يحيط بعلمه ، فهو لم يتسمك بشيء في هذا التكذيب ، إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت ، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل ، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء @ ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه @@ قوله { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } معطوف على { لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ، ولا بلغته عقولهم . والمعنى أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين ، والأمم السابقين ، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها ، أو قبل أن يفهموه حق الفهم ، وتتعقله عقولهم ، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي ، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله ، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة ، واللطائف الأنيقة ، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل { كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه ، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه ، وقبل أن يأتيهم تأويله { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ } من الأمم السالفة من سوء العاقبة ، بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم ، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم . قوله { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } أي ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ، ويعلم أنه صدق وحق ، ولكنه كذب به مكابرة وعناداً . وقيل المراد ومنهم من يؤمن به في المستقبل ، وإن كذب به في الحال ، والموصول مبتدأ ، وخبره منهم { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } ولا يصدّقه في نفسه ، بل كذب به جهلاً كما مرّ تحقيقه ، أو لا يؤمن به في المستقبل ، بل يبقى على جحوده وإصراره . وقيل الضمير في الموضعين للنبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد قيل إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة ، وقيل عام في جميع الكفار { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِٱلْمُفْسِدِينَ } فيجازيهم بأعمالهم ، والمراد بهم المصرّون المعاندون ، أو بكلا الطائفتين ، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ، ويكذبون به في الظاهر ، والذين يكذبون به جهلاً ، أو الذين يؤمنون به في المستقبل ، والذين لا يؤمنون به . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن أصرّوا على تكذيبه واستمرّوا عليه { لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم ، فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه ، وليس عليّ غير ذلك ، ثم أكد هذا بقوله { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } أي لا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم . وقد قيل إن هذا منسوخ بآية السيف كما ذهب إليه جماعة من المفسرين . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } يقول سبقت كلمة ربك . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، قال صدقت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } قال الأوثان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى } الآية ، قال أمره بهذا ، ثم نسخه ، فأمره بجهادهم .