Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 42-49)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } الخ بيّن الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد ، وهي أنهم يستمعون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع ، وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه ، ولهذا قال { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صمّ ، والصمم مانع من سماعهم ، فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع ، وهو الصمم ، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنهم لا يعقلون ، فإن من كان أصمّ غير عاقل ، لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له . وجمع الضمير في { يستمعون } حملاً على معنى من ، وأفرده في { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ } حملاً على لفظه . قيل والنكتة كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر ، من المقابلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع ، والنور الموافق لنور البصر ، والتقدير في قوله { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ } ومنهم ناس يستمعون ، ومنهم بعض ينظر ، والهمزتان في { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ } { أَفَأَنْتَ تَهْدِى } للإنكار ، والفاء في الموضعين للعطف على مقدّر ، كأنه قيل أيستمعون إليك فأنت تسمعهم ؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم ؟ والكلام في { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى ٱلْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } كالكلام في { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } الخ لأن العمى مانع ، فكيف يطمع من صاحبه في النظر . وقد انضمّ إلى فقد البصر ، فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر ، وكذلك الأصمّ العاقل ، قد يتحدّس تحدّساً يفيده بعض فائدة ، بخلاف من جمع له بين عمي البصر والبصيرة ، فقد تعذر عليه الإدراك . وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل ، فقد انسدّ عليه باب الهدى ، وجواب " لو " في الموضعين محذوف ، دلّ عليهما ما قبلهما ، والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه ، واستراح من الاشتغال به . قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ذكر هذا عقب ما تقدّم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار ، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل ، والبصر والبصيرة ، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق ، والمجادلة بالباطل ، والإصرار على الكفر ، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك ، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء ، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك ، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون ، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم ، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية ، فعلى نفسها براقش تجني ، وقرأ حمزة والكسائي " ولكن الناس " بتخفيف النون ورفع الناس ، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس . قال النحاس زعم جماعة من النحويين منهم الفراء ، أن العرب إذا قالت « ولكن » بالواو شدّدوا النون ، وإذا حذفوا الواو خففوها . قيل والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير ، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر ، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة . قوله { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الظرف منصوب بمضمر أي واذكر يوم نحشرهم { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } أي كأنهم لم يلبثوا ، والجملة في محلّ نصب على الحال أي مشبهين من لم يلبث { إِلاَّ سَاعَةً مّنَ ٱلنَّهَارِ } أي شيئاً قليلاً منه ، والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا ، وقيل في القبور ، واستقلوا المدّة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا ، فجعلوا وجودها كالعدم ، أو استقصروها للدهش والحيرة ، أو لطول وقوفهم في المحشر ، أو لشدّة ما هم فيه من العذاب ، نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ، ومثل هذا قولهم { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } المؤمنون 113 وجملة { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة . والمعنى يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً ، وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول ، المذهلة للأفهام . وقيل إن هذا التعارف ، هو تعارف التوبيخ والتقريع ، يقول بعضهم لبعض أنت أضللتني وأغويتني ، لا تعارف شفقة ورأفة ، كما قال تعالى { وَلاَ يَسْـئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } المعارج 10 وقوله { فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } المؤمنون 101 فيجمع بأن المراد بالتعارف هو تعارف التوبيخ ، وعليه يحمل قوله { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } سبأ 31 ، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة ، فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران ، والجملة في محل النصب على الحال ، والمراد بلقاء الله يوم القيامة عند الحساب والجزاء ، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم ، وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم . قوله { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ } أصله إن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد ، والمعنى إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير فتراه ، أو فذاك ، وجملة { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } معطوفة على ما قبلها ، والمعنى أو لا نرينك ذلك في حياتك ، بل نتوفينك قبل ذلك { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } فعند ذلك نعذبهم في الآخرة ، فنريك عذابهم فيها ، وجواب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } محذوف أيضاً ، والتقدير أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة . وقيل إن جواب { أونتوفينك } هو قوله { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة ، وقيل العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة ، والأصل أريناك أو توفيناك ، وفيه نظر ، فإن إراءته صلى الله عليه وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة . وحاصل معنى هذه الآية إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً . وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم ، وذلهم وذهاب عزّهم ، وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن ، فلله الحمد . قوله { ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ } جاء بثم الدالة على التبعيد ، مع كون الله سبحانه شهيداً على ما يفعلونه في الدارين ، للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء ، أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة ، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم ، كما ذكره النيسابوري { وَلِكُلّ أُمَّةٍ } من الأمم الخالية في وقت من الأوقات { رَّسُولٍ } يرسله الله إليهم ، ويبيّن لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } إليهم ، وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين الأمة ورسولها { بِٱلْقِسْطِ } أي العدل فنجا الرسول ، وهلك المكذبون له ، كما قال سبحانه { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء 15 . ويجوز أن يراد بالضمير في { بينهم } الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم ، وصدقه البعض الآخر ، فيهلك المكذبون ، وينجو المصدقون { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك القضاء ، فلا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجة ، ومنه قوله تعالى { وَجِـىء بِٱلنَّبِيّيْنَ وَٱلشُّهَدَاء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } الزمر 69 وقوله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } النساء 41 . والمراد المبالغة في إظهار العدل ، والنصفة بين العباد ، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا { يَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } والاستفهام منهم للإنكار ، والاستبعاد ، وللقدح في النبوّة { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } خطاباً منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله ، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ويقطع اللجاج فقال { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا } أي لا أقدر على جلب نفع لها ، ولا دفع ضرّ عنها ، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري ، وقدّم الضرّ ، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه ، والاستثناء في قوله { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } منقطع كما ذكره أئمة التفسير ، أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان ، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً ، وفي هذه أعظم واعظ ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه . فإن هذا مقام ربّ العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين ، وجميع المخلوقين ، ورزقهم ، وأحياهم ويميتهم ، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء ، أو ملك من الملائكة ، أو صالح من الصالحين ، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ، ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء ، الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم ، وخاتم الرسل ، يأمره الله بأن يقول لعباده لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً ، فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه ، فضلاً عن أن يملكه لغيره ، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى لا إلٰه إلا الله ، ومدلول { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } الإخلاص 1 ؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ، ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشدّ منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضارّ النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، ومقرّبين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال ، وتارة مع ذي الجلال ، وكفاك من شرّ سماعه ، والله ناصر دينه ، ومطهر شريعته من أوضار الشرك ، وأدناس الكفر ، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ، وينثلج به صدره ، من كفر كثير من هذه الأمة المباركة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } الكهف 104 إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم بيّن سبحانه أن لكل طائفة حدّاً محدوداً لا يتجاوزونه ، فلا وجه لاستعجال العذاب فقال { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } فإذا جاء ذلك الوقت ، أنجز وعده وجازى كلاً بما يستحقه ، والمعنى أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم ، أو بين بعضهم البعض أجلاً معيناً ، ووقتاً خاصاً ، يحلّ بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } أي ذلك الوقت المعين ، والضمير راجع إلى كل أمة { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجل المعين { سَاعَةِ } أي شيئاً قليلاً من الزمان { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وعليه ، وجملة { لا يستقدمون } معطوفة على جملة { لا يستأخرون } ، ومثله قوله تعالى { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون } الحجر 5 والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدّم في تفسير الآية التي في أوّل الأعراف ، فلا نعيده . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } قال يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } الآية . قال سوء العذاب في حياتك { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } وفي قوله { وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } قال يوم القيامة .