Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 93-100)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا } هذا من جملة ما عدّده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ، ومعنى { بوّأنا } أسكنا ، يقال بوّأت زيداً منزلاً أسكنته فيه ، والمبوأ اسم مكان أو مصدر ، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب ، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق ، والمراد به هنا المنزل المحمود المختار ، قيل هو أرض مصر . وقيل الأردن وفلسطين . وقيل الشام { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } أي المستلذات من الرزق { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ } في أمر دينهم ، وتشعبوا فيه شعباً بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة { حَتَّىٰ جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة ، وعلمهم بأحكامها ، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المعنى أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم ، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به من آمن منهم ، وكفر به من كفر . فيكون المراد بالمختلفين على القول الأوّل هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها ، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، والمحقّ بعمله بالحق ، والمبطل بعمله بالباطل . { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } الشك في أصل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ، ومنه شك الجوهر في العقد ، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ، فيتردّد ويتحير ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره ، كما ورد في القرآن في غير موضع . قال أبو عمر ، محمد بن عبد الواحد ، الزاهد سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان معنى { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءونَ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكَ } يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله ، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ، ويقرّون بأنهم أعلم منهم ، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا ، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقاً ، وأن هذا رسوله ، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به ، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر . وقال القتيبي المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بتصديقه ، بل كان في شك . وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره . والمعنى لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك . وقيل الشك هو ضيق الصدر أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء ، فاصبر واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم . وقيل معنى الآية الفرض والتقدير ، كأنه قال له فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً . فاسأل الذين يقرءون الكتاب ، فإنهم سيخبرونك عن نبوّتك وما نزل عليك ، ويعترفون بذلك ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم ، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم . قوله { لَقَدْ جَاءكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته ، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ، ولا تشوبه شبهة ، ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه ، بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك . ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره ، كما في مواطن من الكتاب العزيز ، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله ، فإن الظاهر فيه التعريض ، ولا سيما بعد تعقيبه بقوله { فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصوّر صدوره عنه ، فكيف بمن يمكن منه ذلك . قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قد تقدّم مثله في هذه السورة ، والمعنى أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرّون على الكفر ، ويموتون عليه ، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال ، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان ، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب ، فهو في حكم العدم { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } من الآيات التكوينية والتنزيلية ، فإن ذلك لا ينفعهم ، لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم ، وحق منه القول عليهم { حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان ، وليس بإيمان ، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه . قوله { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } " لولا " هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا ، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما ، ويدل على ذلك ما في مصحف أبيّ وابن مسعود « فهلا قرية » ، والمعنى فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتدّاً به ، وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ، ولم يؤخره كما أخره فرعون ، والاستثناء بقوله { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } منقطع ، وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها والمعنى لكن قوم يونس { لَمَّا ءامَنُواْ } إيماناً معتدّاً به قبل معاينة العذاب ، أو عند أوّل المعاينة قبل حلوله بهم { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ } وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي ، والأخفش ، والفراء وقيل يجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء ، وقرىء بالرفع على البدل . وقال الزجاج في توجيه الرفع يكون المعنى غير قوم يونس ، ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها ، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيره . قال ابن جرير خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب . وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين . وقال الزجاج إنه لم يقع العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان ، وهذا أولى من قول ابن جرير . والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم ، وهو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه . أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } أي بعد كشف العذاب عنهم ، متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم ، قدره لهم . ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره ، فقال { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ٱلاْرْضِ كُلُّهُمْ } بحيث لا يخرج عنهم أحد { جَمِيعاً } مجتمعين على الإيمان ، لا يتفرّقون فيه ويختلفون ، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه ، وانتصاب جميعاً على الحال كما قال سيبويه . قال الأخفش جاء بقوله { جميعاً } بعد { كلهم } للتأكيد كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } النحل 51 ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس ، أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة ، والمصالح الراجحة ، لا تقتضي ذلك ، فقال { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ، ولا داخل تحت قدرتك ، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ، ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل ، الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب ، ولله الحكمة البالغة . ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي ما صح ، وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان { وَيَجْعَلُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي العذاب ، أو الكفر ، أو الخذلان الذي هو سبب العذاب . وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل « ونجعل » بالنون . وفي الرجس لغتان ضم الراء وكسرها ، والمراد بالذين لا يعقلون هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ، ولا يتفكرون في آياته ، ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة . وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن قتادة ، في قوله { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } قال بوّأهم الله الشام وبيت المقدس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك قال منازل صدق مصر والشام . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } قال العلم كتاب الله الذي أنزله ، وأمره الذي أمرهم به . وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، وهو في السنن والمسانيد ، والكلام فيه يطول . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، في قوله { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } الآية ، قال لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسأل . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة ، قال ذكر لنا أن رسول الله قال " لا أشك ولا أسأل " وهو مرسل . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءونَ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكَ } قال التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمداً من أهل الكتاب وآمنوا به ، يقول سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال حق عليهم سخط الله بما عصوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يقول فما كانت قرية آمنت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس ، فاستثنى الله قوم يونس . قال وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل . فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة ، فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي ، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها ، فعجوا إلى الله أربعين صباحاً ، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال إن يونس دعا قومه ، فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب . فقال إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ، ثم خرج عنهم ، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت ، فلما أظلهم العذاب خرجوا ، ففرقوا بين المرأة وولدها ، وبين السخلة وولدها . وخرجوا يعجون إلى الله ، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم ، وصرف عنهم العذاب ، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر ، فمرّ به رجل فقال ما فعل قوم يونس ؟ فحدّثه بما صنعوا ، فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم ، وانطلق مغاضبا يعني مراغماً . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال غشى قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، عن ابن عباس ، أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشفه الله عنهم . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الجلد ، قال لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم . فقالوا له ما ترى ؟ قال قولوا يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيـى الموتى ، ويا حيّ لا إله إلا أنت ، فقالوا فكشف عنهم العذاب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { وَيَجْعَلُ ٱلرّجْسَ } قال السخط . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال الرجس الشيطان ، والرجس العذاب .