Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 35-44)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أنكر سبحانه عليهم قولهم إن ما أوحى إلى نوح مفترى ، فقال { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } ثم أمره أن يجيب بكلام متصف ، فقال { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } بكسر الهمزة على قراءة الجمهور ، مصدر أجرم أي فعل ما يوجب الإثم ، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس ، والمعنى فعليّ إثمي ، أو جزاء كسبي . ومن قرأ بفتح الهمزة ، قال هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء ، قيل وفي الكلام حذف والتقدير لكن ما افتريته ، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم ، وأنا بريء منه . وقد اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقيل إنها حكاية عن نوح ، وما قاله لقومه ، وقيل هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة . والأوّل أولى لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام . قوله { وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمن } { أنه لن يؤمن } في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ . ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء أي بأنه ، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم ، وأنهم مستمرّون على كفرهم ، مصممون عليه ، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } البؤس الحزن ، أي فلا تحزن ، والبائس المستكين ، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة . ومنه قول الشاعر @ وكم من خليل أو حميم رُزِئته فلم أبتئس والرزءُ فيه جليلُ @@ ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم ، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه ، وخلاص من آمن معه ، فقال { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي اعمل السفينة متلبساً بأعيننا أي بمرأى منا ، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك ، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلهة الرؤية ، والرؤية هي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب ، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير . وقيل المعنى { بِأَعْيُنِنَا } أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك . وقيل { بِأَعْيُنِنَا } بعلمنا . وقيل بأمرنا . ومعنى بوحينا بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي لا تطلب إمهالهم ، فقد حان وقت الانتقام منهم ، وجملة { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } للتعليل أي لا تطلب منا إمهالهم ، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق ، وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره . وقيل المعنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم ، فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك ، لا يتأخر إغراقهم عنه . وقيل المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه . { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } أي وطفق يصنع الفلك ، أو وأخذ يصنع الفلك . وقيل هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ، وجملة { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } في محل نصب على الحال أي استهزءوا به لعمله السفينة . قال الأخفش والكسائي يقال سخرت به ومنه . وفي وجه سخريتهم منه قولان أحدهما أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة ، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً . والثاني أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة ، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ، قالوا يا نوح ما تصنع بها ؟ قال أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله ، وسخروا به . ثم أجاب عليهم بقوله { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قال لهم ؟ والمعنى إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم ، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق . ومعنى السخرية هنا الاستجهال ، أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون ، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم ، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده ، والتشبيه في قوله { كَمَا تَسْخَرُونَ } لمجرد التحقق والوقوع ، أو التجدّد والتكرّر ، والمعنى إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك ، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك . وقيل معناه نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق ، وفيه نظر ، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية ، إذ هم في شغل شاغل عنها . ثم هدّدهم بقوله { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وهو عذاب الغرق في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب النار الدائم ، ومعنى يحلّ يجعل المؤجل حالاً ، مأخوذ من حلول الدين المؤجل ، و " من " موصولة في محل نصب ، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع أي أينا يأتيه عذاب يخزيه . وقيل في موضع رفع بالابتداء ، و { يأتيه } الخبر ، و { يخزيه } صفة لعذاب . قال الكسائي إن ناساً من أهل الحجاز يقولون " سوف تعلمون " قال ومن قال " ستعلمون " أسقط الواو والفاء جميعاً ، وجوّز الكوفيون « سف تعلمون » ومنعه البصريون ، والمراد بعذاب الخزي العذاب الذي يخزي صاحبه ، ويحل عليه العار . قوله { حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } " حتى " هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية ، وجعلت غاية لقوله { واصنع الفلك بأعيننا } . والتنور اختلف في تفسيرها على أقوال الأوّل أنها وجه الأرض ، والعرب تسمى وجه الأرض تنوراً ، روي ذلك عن ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة . الثاني أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه ، وبه قال مجاهد وعطية والحسن ، وروي عن ابن عباس أيضاً . الثالث أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن . الرابع أنه طلوع الفجر ، من قولهم تنّور الفجر ، روي عن عليّ بن أبي طالب . الخامس أنه مسجد الكوفة ، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد . قال مجاهد كان ناحية التنّور بالكوفة . السادس أنه أعالي الأرض ، والمواضع المرتفعة ، قاله قتادة . السابع أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة ، روي ذلك عن عكرمة . الثامن أنه موضع بالهند . قال ابن عباس كان تنور آدم بالهند . قال النحاس وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض ، قال { فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } القمر 11 ، 12 فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة . هكذا قال ، وفيه نظر ، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء . إلا إذا كان المراد مجرد العلامة ، كما ذكره آخراً . وقد ذكر أهل اللغة أن الفور الغليان ، والتنور اسم عجمي عرّبته العرب . وقيل معنى فار التنور التمثيل بحضور العذاب كقولهم حَمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب ، ومنه قول الشاعر @ تركتم قدركم لا شيء فيها وقِدرُ القوم حامية تفورُ @@ يريد الحرب . قوله { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي قلنا يا نوح ، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى . وقرأ حفص { من كلّ } بتنوين كل أي من كل شيء زوجين ، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج ، كما يقال للرجال زوج ، وللمرأة زوج ، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ، ومثله قوله تعالى { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } الحج 5 ، ومثله قول الأعشى @ وكل ضرب من الديباج يلبسه أبو حذافة مخبوّ بذاك معا @@ أراد كل صنف من الديباج { وَأَهْلَكَ } عطف على { زوجين } ، أو على اثنين على قراءة حفص ، وعلى محل كل زوجين ، فإنه في محلّ نصب بـ { احمل } ، أو على { اثنين } على قراءة الجمهور ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } أي من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين ، في قوله { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } على الاختلاف السابق فيهم ، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة { ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } ومن قال المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك ، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم ، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط ، قوله { وَمَنْ ءامَنَ } معطوف على { أهلك } أي واحمل في السفينة من آمن من قومك ، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم ، أو للاستثناء منهم على القول الآخر . ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به ، فقال { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قيل هم ثمانون إنساناً منهم ثلاثة من بنيه ، وهو سام ، وحام ، ويافث ، وزوجاتهم ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين ، وهي موجودة بناحية الموصل . وقيل كانوا عشرة . وقيل سبعة ، وقيل كانوا اثنين وسبعين . وقيل غير ذلك . قوله { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا } القائل نوح ، وقيل الله سبحانه . والأوّل أولى ، لقوله { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } والركوب العلوّ على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة ، أو مجازاً نحو ركبه الدين ، وفي الكلام حذف أي اركبوا الماء في السفينة ، فلا يرد أن ركب يتعدّى بنفسه وقيل إن الفائدة في زيادة " في " أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها . وقيل إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ } العنكبوت 65 ، وقوله { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ } الكهف 71 قيل ولعلّ نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج ، كأنه قيل فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك ، وقال للمؤمنين ، ويمكن أن يقال إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين ، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات ، أو يكون هذا على طريقة التغليب . قوله { بِسْمِ اللَّهِ } متعلق بـ { اركبوا } ، أو حال من فاعله أي مسمين الله ، أو قائلين { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضمّ الميم فيهما إلا من شدّ منهم على أنهما اسما زمان ، وهما في موضع نصب على الظرفية أي وقت مجراها ومرساها ، ويجوز أن يكونا مصدرين أي وقت إجرائها وإرسائها . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص { مجراها } بفتح الميم ، و { مرساها } بضمها ، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما . وقرأ مجاهد ، وسليمان بن جندب ، وعاصم الجحدري ، وأبو رجاء العطاردي { مجريها ومرسيها } على أنهما وصفان لله ، ويجوز أن يكونا في موضع رفع باضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ } للذنوب { رَّحِيمٌ } بعباده ، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني ، وعدم استئصاله بالغرق . قوله { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب ، والتقدير فركبوا مسمين ، وهي تجرى بهم ، والموج جمع موجة ، وهي ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح ، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض . قوله { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } هو كنعان ، قيل وكان كافراً ، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً } نوح 26 ، وأجيب بأنه كان منافقاً ، فظن نوح أنه مؤمن . وقيل حملته شفقة الأبوّة على ذلك . وقيل إنه كان ابن امرأته ، ولم يكن بابنه ، ويؤيده ما روي أن علياً قرأ " ونادى نوح ابنها " . وقيل إنه كان لغير رشدة ، وولد على فراش نوح . وردّ بأن قوله { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } ، وقوله { إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى } يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } أي في مكان عزل فيه نفسه عن قومه ، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح اركبوا فيها ، وقيل في معزل من دين أبيه ، وقيل من السفينة . قيل وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق ، بل كان في أوّل فور التنور . قوله { مَعْزِلٍ يٰبُنَىَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } قرأ عاصم بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، فأما الكسر فلجعله بدلاً من ياء الإضافة ، لأن الأصل يا بنيّ ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف ، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه . قال النحاس وقراءة عاصم مشكلة . وقال أبو حاتم أصله يا بنياه ثم تحذف ، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين ، وللكسر وجهين . أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه ، والوجه الثاني أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين . وأما الكسر ، فالوجه الأوّل ما ذكرناه ، والثاني أن تحذف لالتقاء الساكنين ، كذا حكى عنه النحاس . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وحفص { ٱرْكَبَ مَّعَنَا } بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج . وقرأ الباقون بعدم الإدغام { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } نهاه عن الكون مع الكافرين أي خارج السفينة ، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم . ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه ، فقال { قَالَ سَآوِى إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَاء } أي يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ ، فأجاب عنه نوح بقوله { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي لا مانع ، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه ، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أوّلياً ، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه ، وتهويلاً لأمره . والاستثناء قال الزجاج هو منقطع أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه ، فيكون { مَن رَّحِمَ } في موضع نصب ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يكون عاصم بمعنى معصوم أي لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله مثل { مَّاء دَافِقٍ } الطارق 6 { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } الحاقة 21 ومنه قول الشاعر @ دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي @@ أي المطعم المكسوّ ، واختار هذا الوجه ابن جرير وقيل العاصم بمعنى ذي العصمة ، كلابن وتامر ، والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله ، وهو السفينة ، وحينئذ فلا يرد ما يقال إن معنى من رحم من رحمه الله ، ومن رحمه الله هو معصوم ، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم ؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال . وقرىء " إلا من رحم " على البناء للمفعول { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق . وقيل بين ابن نوح ، وبين الجبل ، والأوّل أولى ، لأن تفرّع { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } عليه يدل على الأوّل لا على الثاني ، لأن الجبل ليس بعاصم . قوله { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى مَاءكِ } يقال بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع ، وبلع يبلع ، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء والبلع الشرب ، ومنه البالوعة ، وهي الموضع الذي يشرب الماء ، والازدراد ، يقال بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده ، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج { وَيٰسَمَاء أَقْلِعِى } الإقلاع الإمساك ، يقال أقلع المطر إذا انقطع . والمعنى أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال ، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها { وَغِيضَ ٱلْمَاء } أي نقص ، يقال غاض الماء وغضته أنا { وَقُضِىَ ٱلأَمْرُ } أي أحكم وفرغ منه يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىّ } أي استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي ، وهو جبل بقرب الموصل وقيل إن الجودي اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل @ سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد @@ ويقال إنه من جبال الجنة ، فلذا استوت عليه { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } القائل هو الله سبحانه ، ليناسب صدر الآية . وقيل هو نوح وأصحابه . والمعنى وقيل هلاكاً للقوم الظالمين ، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك ، وللإيماء إلى قوله { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } . وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف ، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة ، الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة ، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب ، وأشعار بواقع شعرائهم ، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها . وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم ، فأطالوا وأطابوا ، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } قال عملي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي مما تعملون . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } وذلك حين دعا عليهم نوح قال " لا تَذَكَّرَ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً " نوح 26 . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه ، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم ، فدعا عليهم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله { فَلاَ تَبْتَئِسْ } قال فلا تحزن . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي ، عنه ، في قوله { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } قال بعين الله ووحيه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً قال لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عائشة ، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعل يعملها سفينة ، ويمرّون فيسألونه ، فيقول أعملها سفينة ، فيسخرون منه ، ويقولون يعمل سفينة في البرّ ، وكيف تجري ؟ قال سوف تعلمون ، فلما فرغ منها وفار التنور ، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه ، وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبيّ " وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم . وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث ، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } قال هو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } قال هو الخلود في النار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عنه ، قال كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة ، وكان فار التنور بالهند ، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أيضاً قال التنور العين التي بالجزيرة عين الوردة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة . وقد روي عنه نحو هذا من طرق . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال التنور وجه الأرض ، قيل له إذا رأيت الماء على وجه الأرض ، فاركب أنت ومن معك . والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عليّ { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } قال طلع الفجر ، قيل له إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك . وقد روي في تفسير التنور غير هذا ، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك . وروي في صفة القصة ، وما حمله نوح في السفينة ، وكيف كان الغرق ، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة ، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قال حين يركبون ويجرون ويرسون . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال كان إذا أراد أن ترسي قال بسم الله ، فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال بسم الله ، فجرت . وأخرج أبو يعلى ، والطبراني ، وابن السني ، وابن عديّ ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن الحسن بن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا بسم الله الملك الرحمن ، بسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ، { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر الآية الزمر 67 " وأخرجه ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، عن النبيّ . وأخرجه أيضاً أبو الشيخ ، عنه ، مرفوعاً من طريق أخرى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة ، في قوله { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إلا مَن رَّحِمَ } قال لا ناج إلا أهل السفينة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن القاسم بن أبي برّة ، في قوله { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } قال بين ابن نوح والجبل . وأخرج ابن المنذر ، وعن عكرمة في قوله { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى } قال هو بالحبشية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه ، في { ابلعي } قال بالحبشية أي ازدرديه . وأخرج أبو الشيخ ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال معناه اشربي ، بلغة الهند . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس مثله . أقول وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب ظاهر مكشوف ، فما لنا وللحبشة والهند .