Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 11-18)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجبّ ، جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له ، وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء ، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه ، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه ، فـ { قَالُواْ يأَبَانَا مَـٰلِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } أي أيّ شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه ، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى . وقرأ يزيد بن القعقاع ، وعمرو بن عبيد ، والزهري " لا تأمنا " بالإدغام بغير إشمام . وقرأ طلحة بن مصرف " لا تأمننا " بنونين ظاهرتين على الأصل . وقرأ يحيـى بن وثاب ، وأبو رزين ، والأعمش " لا تيمنا " وهو لغة تميم كما تقدم . وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدلّ على حال الحرف قبل إدغامه { وَإِنَّا لَهُ لَنَـٰصِحُونَ } في حفظه وحيطته حتى نردّه إليك { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً } أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها ، و { غدا } ظرف ، والأصل عند سيبويه غدوة ، قال النضر بن شميل ما بين الفجر وطلوع الشمس يقال له غدوة ، وكذا يقال له بكرة { نرتع وَنَلْعَبُ } هذا جواب الأمر . قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين ، كما رواه البعض عنهم . وقرءوا أيضاً بالاختلاس ، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين . والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير إذا أكل كيف شاء ، أو المعنى نتسع في الخصب ، وكل مخصب راتع ، قال الشاعر @ فارعى فزارة لا هناك المرتع @@ ومنه قول الشاعر @ ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت فإنما هي إقبال وإدبار @@ والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم . وقرأ مجاهد وقتادة " يرتع ويلعب " بالتحتية فيهما ، ورفع يلعب على الاستئناف ، والضمير ليوسف . وقال القتيبي معنى { نرتع } نتحارس ونتحافظ ، ويرعى بعضنا بعضاً ، من قولهم رعاك الله أي حفظك ، و { نلعب } من اللعب . قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء ؟ فقال لم يكونوا يومئذٍ أنبياء ، وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء ، وهو مجرّد الانبساط ، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ، ويتقوّون به عليه كما في قولهم { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } لا اللعب المحظور الذي هو ضدّ الحق ، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر « فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك » فأجابهم يعقوب بقوله { إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } أي ذهابكم به ، واللام في { لَيَحْزُنُنِى } لام الابتداء للتأكيد ، ولتخصيص المضارع بالحال ، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه ، { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذّئْبُ } أي ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب . قال يعقوب هذا تخوّفاً عليه منهم ، فكنى عن ذلك بالذئب . وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب ، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه . قال ثعلب والذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت من كل وجه ، قال والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه . وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز على الأصل ، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة . وقرأ الباقون بالتخفيف . { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَـٰفِلُونَ } لاشتغالكم بالرتع واللعب ، أو لكونهم غير مهتمين بحفظه . { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } اللام هي الموطئة للقسم . والمعنى والله لئن أكله الذئب ، والحال إن نحن عصبة أي جماعة كثيرة عشرة { إِنَّا إِذَا لَّخَـٰسِرُونَ } أي إننا في ذلك الوقت ، وهو أكل الذئب له { لخاسرون } هالكون ضعفاً وعجزاً ، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا ، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله ، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسارة والدّمار . وقيل { لخاسرون } لجاهلون حقه ، وهذه الجملة جواب القسم المقدّر في الجملة التي قبلها . { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } من عند يعقوب { وَأَجْمَعُواْ } أمرهم { أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ } قد تقدّم تفسير الغيابة والجب قريباً ، وجواب " لما " محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه ، والتقدير فعلوا به ما فعلوا ، وقيل جوابه { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } وقيل الجواب المقدّر جعلوه فيها . وقيل الجواب { أوحينا } والواو مقحمة ، ومثله قوله تعالى { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَـٰدَيْنَـٰهُ } الصافات 103 - 104 أي ناديناه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } أي إلى يوسف تيسيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته ، بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة ، فإن الطبع البشري ، - دع عنك الدين - يتجاوز عن ذنب الصغير ، ويغتفره لضعفه عن الدفع ، وعجزه عن أيسر شيء يراد منه ، فكيف بصغير لا ذنب له ، بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب ، فلقد أبعد من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين ، وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوّة حينئذٍ ، كما وقع في عيسى ويحيـى بن زكريا ، وقد قيل إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبالغ الرجال ، وهو بعيد جدّاً ، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب . { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا } أي لتخبرنّ إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد ، وأنزلوه عليك من الضرر ، وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، أي لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجبّ ، ولبعد عهدهم بك ، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك ، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر . قوله { وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } { عشاء } منتصب على الظرفية ، وهو آخر النهار . وقيل في الليل ، و { يبكون } في محل نصب على الحال أي باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة ، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجاً لكذبهم وتنفيقاً لمكرهم وغدرهم . فلما وصلوا إلى أبيهم { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق في العدو أو في الرمي . وقيل ننتضل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود " ننتضل " ، . قال الزجاج وهو نوع من المسابقة . وقال الأزهري النضال في السهام ، والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما . قال القشيري نستبق ، أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام . والغرض من المسابقة التدرّب بذلك في القتال { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا } أي عند ثيابنا ليحرسها { فَأَكَلَهُ ٱلذّئْبُ } الفاء للتعقيب أي ، أكله عقب ذلك . وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقاً عليه ، وربّ كلمة تقول لصاحبها دعني . { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدّق لنا في هذا العذر الذي أبدينا ، والكلمة التي قلناها { وَلَوْ كُنَّا } عندك أو في الواقع { صَـٰدِقِينَ } لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له . قال الزجاج والمعنى ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدّقتنا في هذه القضية لشدّة محبتك ليوسف ، وكذا ذكره ابن جرير وغيره . { وَجَاءوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } { على قميصه } في محل نصب على الظرفية ، أي جاءوا فوق قميصه بدم ، ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى . وقيل المعنى بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه . وقرأ الحسن وعائشة بدم كدب بالدال المهملة أي بدم طريّ . يقال للدم الطريّ كدب . وقال الشعبي إنه المتغير ، والكذب أيضاً البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث ، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين . وقد استدّل يعقوب على كذبهم بصحة القميص ، وقال لهم متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص ؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أي زينت وسهلت . قال النيسابوري التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه ، وهو تفعيل من السول وهو الأمنية . قال الأزهري وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال الزجاج أي فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل . وقال قطرب أي فصبري صبر جميل . وقيل فصبر جميل أولى بي ، قيل والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه . قال الزجاج قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبراً جميلاً قال وكذا في مصحف أنس . قال المبرد { فصبر جميل } بالرفع أولى من النصب . لأن المعنى قال ربّ عندي صبر جميل ، وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرنّ صبراً جميلاً . قال الشاعر @ شكا إليّ جملي طول السرى صبراً جميلاً فكلانا مبتلى @@ { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ } أي المطلوب منه العون { عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أي على إظهار حال ما تصفون ، أو على احتمال ما تصفون ، وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نرتع وَنَلْعَبُ } قال نسعى وننشط ونلهو . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلقنوا الناس فيكذبوا ، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس ، فلما لقنهم أبوهم كذبوا ، فقالوا أكله الذئب " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } قال أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي . وأخرج هؤلاء عن قتادة قال أوحى الله إليه وحياً وهو في الجبّ أن سينبئهم بما صنعوا { وهم } أي إخوته { لا يشعرون } بذلك الوحي ، فهوّن ذلك الوحي عليه ما صنع به . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } قال لم يعلموا بوحي الله إليه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ، ثم نقره فطنّ ، فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجبّ ، فأتيتم أباكم فقلتم إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب ، فقال بعضهم لبعض إن هذا الجام ليخبره بخبركم ، فقال ابن عباس فلا نرى هذه الآية نزلت إلاّ في ذلك { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال كان يوسف في الجبّ ثلاثة أيام . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } قال بمصدّق لنا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَجَاءوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال كان دم سخلة . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَجَاءوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقاً قال كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } يقول بل زينت لكم أنفسكم أمراً { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أي على ما تكذبون . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال " لا شكوى فيه ، من بثّ لم يصبر " وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمٰن ، عن حبان بن أبي حبلة ، وهو مرسل . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال ليس فيه جزع .