Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 50-57)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ } في الكلام حذف قبل هذا ، والتقدير فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا ، وقال الملك لمن بحضرته { ائتوني به } أي بيوسف ، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله ، بعد أن علم من فضله ما علمه ، من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه . { فَلَمَّا جَاءهُ } أي جاء إلى يوسف { ٱلرَّسُولَ } واستدعاه إلى حضرة الملك ، وأمره بالخروج من السجن { قَالَ } يوسف للرسول { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ } أي سيدك { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } أمره بأن يسأل الملك عن ذلك ، وتوقف عن الخروج من السجن ، ولم يسارع إلى إجابة الملك ، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه ، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً ، ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوّره ، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم " ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك . قال ابن عطية هذا الفعل من يوسف أناة وصبراً ، وطلباً لبراءة ساحته ، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز ، وإنما قال { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنّسْوَةِ } وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز ، أو خوفاً منه من كيدها وعظيم شرّها ، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهنّ له ، تنزهاً منه عن نسبة ذلك إليهنّ ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدّم إلى امرأة العزيز إلاّ بعد أن رمته بدائها وانسلت . وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله { إِنَّ رَبّى بكيدهن عَلِيمٌ } فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهنّ مغنياً عن التصريح . وجملة { قَالَ فَمَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف ؟ والخطب الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة ، والمعنى ما شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه . وقد تقدّم معنى المراودة ، وإنما نسب إليهنّ المراودة ، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم ، ومن جملة ما شمله خطاب الملك امرأة العزيز ، أو أراد بنسبة ذلك إليهنّ وقوعه منهنّ في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز ، فأجبن عليه بقولهنّ { قُلْنَ حَاشَ لله } أي معاذ الله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } أي من أمر سيء ينسب إليه ، فعند ذلك { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ } منزهة لجانبه مقرّة على نفسها بالمراودة له { الآن حصحص الحق } أي تبين وظهر . وأصله حصّ ، فقيل حصحص كما قيل في كبوا { فكبكبوا } الشعراء 94 قاله الزجاج ، وأصل الحصّ استئصال الشيء ، يقال حصَّ شعره ، إذا استأصله ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت @ قد حَصت البيضةُ رأسي فما أطعمُ نوما غيرَ تهجاعِ @@ والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه ، ومنه @ فمن مبلغ عني خِداشا فإنه كَذوبٌ إذا ما حَصحَص الحق ظالِمُ @@ وقيل هو مشتق من الحصة ، والمعنى بانت حصّة الباطل . قال الخليل معناه ظهر الحق بعد خفائه ، ثم أوضحت ذلك بقولها { أَنَاْ رٰوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } ولم تقع منه المراودة لي أصلاً { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } فيما قاله من تبرئة نفسه ، ونسبة المراودة إليها ، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام . قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام . قال الفراء ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، إذا دلت القرينة الصارفة إلى كل منهما إلى ما يليق به ، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه ، وهي تثبته وتأنيه ، أي فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب ، والمعنى بظهر الغيب ، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي وهو غائب عني ، أو وأنا غائب عنه ، قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة ، وما قالته امرأة العزيز . وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك ، والأوّل أولى ، وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز ، والمعنى ذلك القول الذي قلته في تنزيهه ، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه ، فأنسب إليه ما لم يكن منه ، وهو غائب عني ، أو وأنا غائبة عنه ، والإقرار على نفسي به . { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ ٱلْخَـٰئِنِينَ } أي لا يثبته ويسدّده ، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم ، وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها . وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته . { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس ، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء ، وظهر ذلك ظهور الشمس ، وأقرّت به المرأة التي ادّعت عليه الباطل ، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة لأنها قد أقرت بالذنب ، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف . وقد قيل إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جدّاً ، ومعناه وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف ، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوء } أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات ، وتأثيرها بالطبع ، وصعوبة قهرها ، وكفها عن ذلك { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } أي إلاّ من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء ، أو إلاّ وقت رحمة ربي وعصمته لها ، وقيل الاستثناء منقطع ، والمعنى لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء ، وجملة { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما قبلها ، أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم . قوله { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدّم . ومعنى { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } أجعله خالصاً لي دون غيري ، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز ، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة ، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً ، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } في الكلام حذف ، وتقديره فأتوه به ، فلما كلمه ، أي فلما كلم الملك يوسف ، ويحتمل أن يكون المعنى فلما كلم يوسف الملك ، قيل والأوّل أولى لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلاّ هم دون من يدخل عليهم . وقيل الثاني أولى لقول الملك { قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك ، وقربه من قلبه ، فقال هذه المقالة ، ومعنى { مكين } ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره ، أو على ما يكله إليه من ذلك . قيل إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره ، وقال له إني أحبّ أن أسمع منك تعبير رؤياي ، فعبرها له بأكمل بيان ، وأتمّ عبارة ، فلما سمع الملك منه ذلك قال له { إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } . فلما سمع يوسف منه ذلك قال { ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلأَرْضِ } أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر ، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض ، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال . طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ، ورفع الظلم ، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله ، وترك عبادة الأوثان . وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ، ويهدم ما أمكنه من الباطل ، وطلب ذلك لنفسه ، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ، ترغيباً فيما يرومه ، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه ، وجعلها منوطة به ، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها ، أو حرص عليها . والخزائن جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، والحفيظ الذي يحفظ الشيء ، أي { إِنّى حَفِيظٌ } لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ، ولا أصرفها في غير مصارفها { عَلِيمٌ } بوجوده جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها . { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } أي ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض أي جعلنا له مكاناً ، وهو عبارة عن كمال قدرته ، ونفوذ أمره ونهيه ، حتى صار الملك يصدر عن رأيه ، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } أي ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة ، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدّم ، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر ، كما يتصرف الرجل في منزله . وقرأ ابن كثير بالنون ، وقد استدلّ بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر ، بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق . وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفياً في قوله سبحانه { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } هود 113 { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء } من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه ، والإنعام عليه ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم ، أي لا نضيع ثوابهم فيها ، ومجازاتهم عليها { وَلأجْرُ ٱلأخِرَةِ } أي أجرهم في الآخرة ، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة ، وأجرهم هوالجزاء الذي يجازيهم الله به فيها ، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدّتها { خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } بالله { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الوقوع فيما حرّمه عليهم . والمراد بهم المحسنون المتقدم ذكرهم ، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتدّ به ، هو الإيمان والتقوى . وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله { مَا بَالُ ٱلنّسْوَةِ } قال أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب عنه قال لما قالت امرأة العزيز أنا راودته ، قال يوسف { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } فغمزه جبريل فقال ولا حين هممت بها ؟ فقال { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } قال تبين . وأخرج ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدّي مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، عن حكيم بن حزام في قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } فقال له جبريل ولا حين حللت السراويل ؟ فقال عند ذلك { وما أبرئ نفسي } . وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } قال فأتاه الرسول فقال ألقِ عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً ، فقال أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة ؟ وأقعده قدّامه وقال لا تخف ، وألبسه طوقاً من ذهب وثياب حرير ، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك ، وضرب الطبل بمصر إن يوسف خليفة الملك . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال قال الملك ليوسف إني أحبّ أن تخالطني في كل شيء إلاّ في أهلي . وأنا آنف أن تأكل معي ، فغضب يوسف ، وقال أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله ، وأنا ابن يعقوب نبيّ الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله { ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ } يقول على جميع الطعام { إِنّى حَفِيظٌ } لما استودعتني { عَلِيمٌ } بسني المجاعة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } قال ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء . وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم ، أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكراً ، وكان زوجها عنينا .