Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 12-18)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما خوّف سبحانه عباده بإنزال مالاً مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه ، ويخاف من بعضها ، وهي البرق ، والسحاب ، والرعد ، والصاعقة ، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها . وقد اختلف في وجه انتصاب { خَوْفًا وَطَمَعًا } فقيل على المصدرية ، أي لتخافوا ولتطمعوا طمعاً ، وقيل على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع ، لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له ، أو على الحالية من البرق ، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف . وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه . قيل والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق ، وبالطمع هو الحاصل في المطر ، وقال الزجاج الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر ، والطمع للحاضر . لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر ، الذي هو سبب الخصب { وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ } التعريف للجنس ، والواحدة سحابة ، والثقال جمع ثقيلة ، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء . { وَيُسَبّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } أي يسبح الرعد نفسه بحمد الله أي متلبساً بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } الإسراء 44 . وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له ، وعناية به ، وقيل المراد ويسبح سامعو الرعد ، أي يقولون سبحان الله والحمدلله { وَٱلْمَلْـٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه . وقيل من خيفة الرعد . وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد . وأن الله سبحانه جعل له أعواناً { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } من خلقه فيهلكه ، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها ، وهي الدلالة على كمال قدرته { وَهُمْ يُجَـٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ } الضمير راجع إلى الكفار ، المخاطبين في قوله { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } أي وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة ، ويستعجلون العذاب أخرى ، ويكذبون الرسل ويعصون الله ، وهذه الجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة . { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } قال ابن الأعرابي المحال المكر ، والمكر من الله التدبير بالحق . وقال النحاس المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر . وقال الأزهري المحال القوة والشدة ، والميم أصلية ، وما حلت فلاناً محالاً أينا أشد . وقال أبو عبيد المحال العقوبة والمكروه . قال الزجاج يقال ما حلته محالاً إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد ، والمحْلُ في اللغة الشدة . وقال ابن قتيبة أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان ، وأصله من الكون ، ثم يقال تمكنت . قال الأزهري غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة ، بل هي أصلية . وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية ، مثل مهاد وملاك ومراسي وغير ذلك من الحروف . وقرأ الأعرج " وهو شديد المحال " بفتح الميم . وقد فسرت هذه القراءة بالحول . وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية الأول العداوة . الثاني الحول . الثالث الأخذ . الرابع الحقد . الخامس القوة . السادس الغضب . السابع الهلاك . الثامن الحيلة . { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة ، أي الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه ، كما يقال كلمة الحق ، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها ، لا كدعوة من دونه . وقيل الحق هو الله سبحانه ، والمعنى أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق ، وهو الذي يسمع فيجيب ، وقيل المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإخلاص ، والمعنى لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له . وقيل دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } الإسراء 67 . وقيل الدعوة العبادة ، فإن عبادة الله هي الحق والصدق { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } أي والآلهة الذين يدعونهم - يعني الكفار - من دون الله - عزّ وجلّ - لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائناً ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه ، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه . ولهذا قال { وَمَا هُوَ } أي الماء { بِبَالِغِهِ } أي ببالغ فيه . قال الزجاج إلاّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه ، والماء لا يستجيب ، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه ، وما الماء ببالغه . وقيل المعنى أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه . وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء كما قال الشاعر @ فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد @@ وقال الآخر @ ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأصابع @@ وقال الفراء إن المراد بالماء هنا ماء البئر ، لأنها معدن للماء ، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء ، ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام . { وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } أي يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئاً ، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه ، بل هو ضائع ذاهب . { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ * طَوْعًا وَكَرْهًا } إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي ، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل ، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن ، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم ، فلا بدّ أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب ، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره ، أو يفسر للسجود بالانقياد . لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره ، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى . ويدل على إرادة هذا المعنى قوله { طَوْعًا وَكَرْهًا } فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً ، وهما منتصبان على المصدرية ، أي انقياد طوع وانقياد كره ، أو على الحال ، أي طائعين وكارهين ، وقال الفراء الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً ، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين ، فالآية محمولة على هؤلاء . وقيل الآية في المؤمنين ، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له . { وَظِلَـٰلُهُم بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } وظلالهم جمع ظل ، والمراد به ظل الإنسان الذي يتبعه ، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه . قال الزجاج ، وابن الأنباري ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه ، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً . وظل الكافر يسجد لله كرهاً . وخص الغدو والآصال بالذاكر ، لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما ، وهما ظرف للسجود المقدر ، أي ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين ، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف ، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَـٰلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دٰخِرُونَ } النحل 48 وجاء بمن في { من في السمٰوات والأرض } تغليباً للعقلاء على غيرهم ، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم ، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم { لله } على الفعل من الاختصاص ، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله ، كالخلق والحياة والموت ، ونحو ذلك . { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار من رب السمٰوات والأرض ؟ ثم لما كانوا يقرّون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله { ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } الزخرف 9 . وقوله { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } الزخرف 87 أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب ، فقال { قُلِ ٱللَّهُ } فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه ، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذراً مما يلزمهم ، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال { قُلْ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } والاستفهام للإنكار ، أي إذا كان رب السمٰوات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله { قُلْ مَن رَّبُّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ * ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } المؤمنون 86 - 87 فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين { لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا } ينفعونها به { وَلاَ ضَرّا } يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم ، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم ، والجملة في محل نصب على الحال ، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم . فقال { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } أي هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر ، والبصير فيه وهو الموحد ، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه ، والثاني عالم بذلك . قرأ ابن محيصن ، وأبو بكر ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي " أم هل يستوي الظلمات والنور " بالتحتية . وقرأ الباقون بالفوقية . واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، والمراد بالظلمات الكفر ، وبالنور الإيمان ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير ، وما بين الظلمات والنور ؟ ووحد النور وجمع الظلمات ، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف ، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة . { أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } " أم " هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، والاستفهام لإنكار الوقوع . قال ابن الأنباري معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم ، أي ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم ، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق ، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً ، وجملة { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } في محل نصب صفة لشركاء ، والمعنى أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه { فَتَشَابَهَ } بهذا السبب { ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم ، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها ، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك ، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال { قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه . قال الزجاج والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً ، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق { وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ } أي المتفرّد بالربوبية { ٱلْقَهَّارُ } لما عداه ، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب . ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه ، وللباطل ومنتحليه فقال { أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء مَآء } أي من جهتها ، والتنكير للتكثير أو للنوعية { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } جمع وادٍ ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما . قال أبو علي الفارسي لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلاّ هذا ، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة . كما أن فعيلاً حمل على فاعل ، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف ، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . قال وفي قوله { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } توسع أي سال ماؤها ، قال ومعنى { بِقَدَرِهَا } بقدر مائها ، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها . قال الواحدي والقدر مبلغ الشيء ، والمعنى بقدرها من الماء ، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر ، وقال في الكشاف { بقدرها } بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . قال ابن الأنباري شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر ، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر ، وشبه الأودية بالقلوب إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين . { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا } الزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ، ويقال له الغثاء والرغوة ، والرابي العالي المرتفع فوق الماء . قال الزجاج هو الطافي فوق الماء ، وقال غيره هو الزائد بسبب انتفاخه ، من ربا يربو إذا زاد . والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء ، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح . فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ . وقد تمّ المثل الأولّ ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى ٱلنَّارِ } " من " لابتداء الغاية ، أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، أو للتبعيض ، بمعنى وبعضه زبد مثله ، والضمير للناس ، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره . هذا على قراءة { يوقدون } بالتحتية ، وبها قرأ حميد وابن محيصن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد . والمعنى ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة . { ٱبْتِغَاء حِلْيَةٍ } أي لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة { أَوْ مَتَـٰعٍ } أي أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص { زَبَدٌ مّثْلُهُ } المراد بالزبد هنا الخبث ، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في { مثله } يعود إلى { زبداً رابياً } وارتفاع { زبد } على الابتداء وخبره { مما يوقدون } ، { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ } أي مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل ، ثم شرع في تقسيم المثل فقال { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء } يقال جفأ الوادي بالهمز جفاء إذا رمى بالقذر والزبد . قال الفراء الجفاء الرمي . يقال جفأ الوادي غثاء جفاء إذا رمى به ، والجفاء بمنزلة الغثاء . وكذا قال أبو عمرو بن العلاء ، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ " جفالاً " . قال أبو عبيدة يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها . وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته ، قال أبو حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر . واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة ، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه . وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة ، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب ، فإذا أذبيت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها . { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } منهما وهو الماء الصافي ، والذائب الخالص من الخبث { فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ } أي يثبت فيها . أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به ، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة . وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل ، يقول إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه ، وهو مثل الحق . قال الزجاج فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به . وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن . { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلاْمْثَالَ } أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم ، وهذا تأكيد لقوله { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ } . ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده ، فقال فيمن ضرب له مثل الحق { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ } أي أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه ، و { الحسنى } صفة موصوف محذوف ، أي المثوبة الحسنى وهي الجنة ، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } لدعوته إلى ما دعاهم إليه ، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية ، وهي { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله . والمعنى ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم ، ثم بين الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ } يعني الذين لم يستجيبوا { لَهُمْ سُوء ٱلْحِسَـٰبِ } قال الزجاج لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، وقال غيره سوء الحساب المناقشة فيه وقيل هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مرجعهم إليها { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي المستقرّ الذي يستقرون فيه . والمخصوص بالذم محذوف . وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } قال خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته . وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال الخوف ما يخاف من الصواعق ، والطمع الغيث . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، والبيهقي في سنّنه من طرق عن عليّ بن أبي طالب قال البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب . وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه ، ولعلنا قد قدّمنا في سورة البقرة شيئاً من ذلك . وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله ينشىء السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك " قيل والمراد بنطقها الرعد ، وبضحكها البرق . وقد ثبت عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي في اليوم والليلة ، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " وأخرج العقيلي وضعفه ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينشىء الله السحاب ثم ينزل فيه الماء ، فلا شيء أحسن من ضحكه ، ولا شيء أحسن من نطقه ، ومنطقه الرعد وضحكه البرق " وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله « أن خزيمة بن ثابت ، وليس بالأنصاري ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال " إن ملكاً موكلاً يلمّ القاصية ويلحم الدانية ، في يده مخراق ، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت ، وإذا ضرب صعقت " وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه . والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال « أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال { الله على ما نقول وكيل } يوسف 66 ، قال " هاتوا " ، قالوا أخبرنا عن علامة النبيّ ؟ قال " تنام عيناه ولا ينام قلبه " ، قالوا أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر ؟ قال " يلتقي الماءان ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت " قالوا أخبرنا عمّا حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال " كان يشتكي عرق النساء ، فلم يجد شيئاً يلائمه إلاّ ألبان كذا وكذا يعني الإبل ، فحرم لحومها " قالوا صدقت ، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال " ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله " ، قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال " صوته " ، قالوا صدقت إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا ، إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال " جبريل ، " قالوا جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدوّنا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } البقرة 97 إلى آخر الآية . وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا في المطر ، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال سبحان الذي سبحت له ، وقال إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه . وقد روي نحو هذا عنه من طرق . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك ، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال الرعد ملك اسمه الرعد ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتدّ زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه ، فتخرج الصواعق من بينه ، وأخرج ابن أبي حاتم ، والخرائطي ، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال إن بحوراً من نار دون العرش يكون منها الصواعق . وأخرج أبو الشيخ عن السدّي قال الصواعق نار . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } قال شديد القوّة . وأخرج ابن جرير عن علي قال شديد الأخذ . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه في قوله { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } قال التوحيد لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله { دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } قال شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن جرير عن علي في قوله { إِلاَّ كَبَـٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } قال كان الرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره ، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه . وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله { هَلْ يَسْتَوِى ٱلاْعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } قال المؤمن والكافر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله { أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء مَآء } الآية قال هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء } وهو الشك { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ } وهو اليقين ، وكما يجعل الحليّ في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } قال الصغير قدر صغره ، والكبير قدر كبره .