Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 19-25)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الهمزة في قوله { أَفَمَن يَعْلَمُ } للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم أنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ، وهو القرآن ، وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك ، فإن الحال بينهما متباعد جدّاً كالتباعد الذي بين الماء والزبد ، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام ، ثم بين سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين ، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة ، فقال { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } . ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة ، فقال { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم ، أو فيما بينهم وبين العباد { وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَـٰقَ } الذي وثقوه على أنفسهم ، وأكدوه بالإيمان ونحوها ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها ، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله ، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه ، ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الأعراف 171 . { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته ، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده ، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أوّلياً ، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم ، واللفظ أوسع من ذلك { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشية تحملهم على فعل ما وجب ، واجتناب ما لا يحلّ { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد ، فمن نوقش الحساب عذب ، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا . { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ } قيل هو كلام مستأنف ، وقيل معطوف على ما قبله ، والتعبير عنه بلفظ المضيّ للتنبيه على أنه ينبغي تحققه ، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه . وقيل على الرزايا والمصائب ، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله أن يكون خالصاً له ، لا شائبة فيه لغيره { وأقاموا الصلاة } أي فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص ، والمراد بها الصلوات المفروضة ، وقيل أعمّ من ذلك { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي أنفقوا بعض ما رزقناهم ، والمراد بالسرّ صدقة النفل ، والعلانية صدقة الفرض وقيل السرّ لمن لم يعرف بالمال ، أو لا يتهم بترك الزكاة ، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة { وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ } أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } فصلت 34 ، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء ، أو يدفعون الشرّ بالخير ، أو المنكر بالمعروف ، أو الظلم بالعفو ، أو الذنب بالتوبة ، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى الموصوفين بالصفات المتقدّمة { لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } العقبى مصدر كالعاقبة والمراد بالدار الدنيا ، وعقباها الجنة وقيل المراد بالدار الدار الآخرة ، وعقباها الجنة للمطيعين ، والنار للعصاة . { جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } بدل من عقبى الدار أي لهم جنات عدن ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره يدخلونها ، والعدن أصله الإقامة ، ثم صار علماً لجنة من الجنان . قال القشيري وجنات عدن وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن ، ولكن في صحيح البخاري وغيره " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمٰن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } يشمل الآباء والأمهات { وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ } معطوف على الضمير في يدخلون ، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، أي ويدخلها أزواجهم وذرياتهم ، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلاّ من كان كذلك من قرابات أولئك ، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج ، أو الذرية بدون صلاح { وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } أي من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها ، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه . { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } أي قائلين سلام عليكم أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة { بِمَا صَبَرْتُمْ } أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم ، أو بمحذوف أي هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاقّ الصبر { فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدّم ذكرها للترغيب والتشويق . ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء ، فقال { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } وقد مرّ تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع ، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدّمة لدخولها في النقض والقطع { وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأَرْضِ } بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بهذه الصفات الذميمة { لَهُمْ } بسبب ذلك { ٱللَّعْنَةَ } أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه { وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } أي سوء عاقبة دار الدنيا ، وهي النار أو عذاب النار . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ٱلْحَقُّ } قال هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه { كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ } قال عن الحق فلا يبصره ولا يعقله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلألْبَـٰبِ } فبين من هم ، فقال { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { أولوا الألباب } قال من كان له لبّ ، أي عقل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن . وأخرج الخطيب ، وابن عساكر عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن البرّ والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } » . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } يعني من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يعني يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } يعني شدّة الحساب . وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، أبو الشيخ عن الضحاك { وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ } قال يدفعون بالحسنة السيئة . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ } قال بطنان الجنة ، يعني وسطها . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب ما عدن ؟ قال هو قصر في الجنة لا يدخله إلاّ نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل . وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ، ثم قال له كن فكان " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } قال من آمن في الدنيا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } قال على دينكم { فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } قال نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة . وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوّل من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسدّ بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته ، في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال الله إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، وتسدّ بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة « إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوّب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول أقصى الخدم للذي يليه ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه ملك يستأذن ، حتى يبلغ المؤمن ، فيقول ائذنوا له ، فيقول أقربهم إلى المؤمن ائذنوا له ، ويقول الذي يليه للذي يليه ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه ، ثم ينصرف . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } قال سوء العاقبة .