Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 13-18)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هؤلاء القائلون هم طائفة المتمرّدين عن إجابة الرسل ، واللام في لنخرجنكم هي الموطئة للقسم ، أي والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا ، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترءوا عليهم بهذا ، وخيروهم بين الخروج من أرضهم ، أو العود في ملتهم الكفرية . وقد قيل إن « أو » في { أو لتعودنّ } بمعنى حتى ، أو يعني إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين ، وردّ بأنه لا حاجة إلى ذلك ، بل " أو " على بابها للتخيير بين أحد الأمرين ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأعراف . قيل والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها . وقيل إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب على أتباعهم { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } أي إلى الرسل { لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي قال لهم لنهلكن الظالمين . { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ } أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا } الأعراف 137 . وقال { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـٰرَهُمْ } الأحزاب 27 وقرىء " ليهلكن " ، " وليسكننكم " بالتحتية في الفعلين اعتباراً بقوله { فأوحى } ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } أي موقفي ، وذلك يوم الحساب ، فإنه موقف الله سبحانه ، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة . وبالضم فعل الإقامة ، وقيل إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام ، أي لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له ، كقوله تعالى { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } الرعد 33 . وقال الأخفش { ذلك لمن خاف مقامي } أي عذابي { وَخَافَ وَعِيدِ } أي خاف وعيدي بالعذاب . وقيل بالقرآن وزواجره . وقيل هو نفس العذاب ، والوعيد الاسم من الوعد . { وَٱسْتَفْتَحُواْ } معطوف على { أوحى } ، والمعنى أنهم استنصروا بالله على أعدائهم ، أو سألوا الله القضاء بينهم ، من الفتاحة وهي الحكومة ومن المعنى الأوّل قوله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ٱلْفَتْحُ } الأنفال 19 أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر . ومن المعنى الثاني قوله { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ } الأعراف 19 أي احكم ، والضمير في { استفتحوا } للرسل . وقيل للكفار . وقيل للفريقين { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً ، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة ، والعنيد المعاند للحق والمجانب له ، وهو مأخوذ من العند ، وهو الناحية ، أي أخذ في ناحية معرضاً . قال الشاعر @ إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا @@ قال الزجاج العنيد الذي يعدل عن القصد ، وبمثله قال الهروي ، وقال أبو عبيد هو الذي عند وبغى . وقال ابن كيسان هو الشامخ بأنفه . وقيل المراد به العاصي . وقيل الذي أبى أن يقول لا إلٰه إلاّ الله . ومعنى الآية أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } أي من بعده جهنم ، والمراد بعد هلاكه على أن وراءها ها هنا بمعنى بعد ، ومنه قول النابغة @ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب @@ أي ليس بعد الله ، ومثله قوله { ومن مِنَ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي من بعده . كذا قال الفراء . وقيل من ورائه أي من أمامه ، قال أبو عبيد هو من أسماء الأضداد ، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر ، ومنه قول الشاعر @ ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي @@ وقال آخر @ أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا @@ أي أمامي ، ومنه قوله تعالى { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } الكهف 79 . أي أمامهم ، ويقول أبي عبيدة هذا قاله قطرب . وقال الأخفش هو كما يقال هذا الأمر من ورائك ، أي سوف يأتيك ، وأنا من وراء فلان ، أي في طلبه . وقال النحاس من ورائه ، أي من أمامه ، وليس من الأضداد ، ولكنه من توارى ، أي استتر فصارت جهنم من ورائه لأنها لا ترى ، وحكى مثله ابن الأنباري . { وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ } معطوف على مقدّر جواباً عن سؤال سائل ، كأنه قيل فماذا يكون إذن ؟ قيل يلقى فيها ويسقى ، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ، واشتقاقه من الصدّ ، لأنه يصدّ الناظرين عن رؤيته ، وهو دم مختلط بقيح ، والصديد صفة لماء . وقيل عطف بيان منه { ويتجرعه } في محل جر على أنه صفة لماء ، أو في محل نصب على أنه حال . وقيل هو استئناف مبنيّ على سؤال . والتجرع التحسي أي يتحساه مرة بعد مرّة لا مرّة واحدة لمرارته وحرارته { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي يبتلعه ، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً إذا كان سهلاً ، والمعنى ولا يقارب إساغته ، فكيف تكون الإساغة ؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة ، ويشربه على هذه الحال أخرى . وقيل إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء ، كقوله { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } البقرة 71 أي يفعلون بعد إبطاء ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في آية أخرى { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } الحج 20 { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ } أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات . أو من كل موضع من مواضع بدنه . وقال الأخفش المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتاً لشدّتها { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح . وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا ، ومثله قوله تعالى { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } الأعلى 13 ، وقيل معنى { وما هو بميت } لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه ، والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } وقوله { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } فاطر 36 { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي من أمامه ، أو من بعده عذاب شديد . وقيل هو الخلود . وقيل حبس النفس . { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } قال سيبويه مثل مرتفع على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال الزجاج . وقال الفراء التقدير { مثل } أعمال الذين كفروا فحذف المضاف . وروي عنه أنه قال بإلغاء مثل . والتقدير الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد . وقيل هو أعني { مثل } مبتدأ وخبره { أعمالهم كرماد } على أن معناه الصفة ، فكأنه قال صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد . والمعنى أن أعمالهم باطلة غير مقبولة ، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء ، ضرب الله سبحانه هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف ، ومعنى اشتدّت به الريح حملته بشدّة وسرعة ، والعصف شدّة الريح ، وصف به زمانها مبالغة كما يقال يوم حار ويوم بارد ، والبرد والحر فيهما لا منهما { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَىْء } أي لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة على شيء منها ، ولا يرون له أثراً في الآخرة يجازون به ويثابون عليه ، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها . والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما دلّ عليه التمثيل أي هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } عن طريق الحقّ المخالف لمنهج الصواب ، لما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه سماه بعيداً . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَا } الآية ، قال كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ، ويقهرونهم ، ويكذبونهم ، ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم ، فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر ، وأمرهم أن يتوكلوا على الله ، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ، ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم ، فأنجز لهم ما وعدهم . واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، فبين الله من يسكنها من عباده فقال { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } الرحمٰن 46 وإن لله مقاماً هو قائمه ، وإن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَٱسْتَفْتَحُواْ } قال للرسل كلها يقول استُنصروا ، وفي قوله { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } قال معاند للحقّ مجانب له . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال استنصرت الرسل على قومها { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يقول عنيد عن الحق معرض عنه ، أبى أن يقول لا إلٰه إلاّ إلٰه . وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال العنيد الناكب عن الحق . وأخرج أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي الدنيا ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " { وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ } قال " يقرب إليه فيتكرهه " ، فإذا دنا منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره . يقول الله تعالى { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } " محمد 15 . وقال { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ } الكهف 29 . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله { مِن مَّاء صَدِيدٍ } قال يسيل من جلد الكافر ولحمه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال { مِن مَّاء صَدِيدٍ } هو القيح والدم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ } قال أنواع العذاب ، وليس منها نوع إلاّ الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت لأن الله يقول { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } فاطر 36 . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ } قال من كلّ عظم وعرق وعصب . وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن محمد بن كعب نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال من موضع كل شعرة في جسده { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } قال الخلود . وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } قال حبس الأنفاس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } الآية قال مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ، ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف .