Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 28-34)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { أَلَمْ تَرَ } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له ، وهو تعجيب من حال الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر أي بدل شكرها الكفر ، بها ، وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم ، وأنعم عليهم به ، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت فيهم . وقيل نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر . وقيل نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم ، وبني أمية . وقيل نزلت في منتصرة العرب . وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه ، وفيه نظر ، فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلاّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقيل إنها عامة في جميع المشركين . وقيل المراد بتبديل نعمة الله كفراً أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدّلين بها الكفر { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } أي أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار ، وهي جهنم ، والبوار الهلاك . وقيل هم قادة قريش أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار أي الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به ، ومنه قول الشاعر @ فلم أرَ مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار @@ والأوّل أولى لقوله { جَهَنَّمَ } فإنه عطف بيان لدار البوار ، و { يَصْلَوْنَهَا } في محل نصب على الحال ، أو هو مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها { وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } أي بئس القرار قرارهم فيها ، أو بئس المقرّ جهنم ، فالمخصوص بالذمّ محذوف { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } معطوف على { وأحلوا } أي جعلوا لله شركاء في الربوبية ، أو في التسمية وهي الأصنام . قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليضلوا " بفتح الياء أي ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله ، وتكون اللام للعاقبة ، أي ليتعقب جهلهم لله أنداداً ضلالهم ، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه ، وحسن استعمال لام العاقبة هنا لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب ، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز . وقرأ الباقون بضم الياء ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله ، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً . ثم هدّدهم سبحانه ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات ، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } أي مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا ، ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه ، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين ، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بدّ لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك ، فجملة { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره . ويجوز أن تكون هذه الجملة جواباً لمحذوف دلّ عليه سياق الكلام ، كأنه قيل فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار ، والأوّل أولى والنظم القرآني عليه أدلّ . وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان اصنع ما شئت من المخالفة ، فإن مصيرك إلى السيف . { قُل لّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً } لما أمره بأن يقول للمبدّلين نعمة الله كفراً الجاعلين لله أنداداً ما قاله لهم ، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم ، وهي طائفة المؤمنين ، هذا القول ، والمقول محذوف دلّ عليه المذكور ، أي قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا ، فجزم { يقيموا } على أنه جواب الأمر المحذوف ، وكذلك { ينفقوا } ، ذكر معنى هذا الفراء . وقال الزجاج إنّ يقيموا مجزوم بمعنى اللام ، أي ليقيموا فأسقطت اللام ، ثم ذكر وجهاً آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء . وانتصاب { سرّا } ً و { علانية } ، إما على الحال ، أي مسرين ومعلنين ، أو على المصدر ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية ، أو على الظرف ، أي وقت سرّ ووقت علانية . قال الجمهور السرّ ما خفي . والعلانية ما ظهر . وقيل السرّ التطوّع ، والعلانية الفرض ، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ } البقرة 271 . { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـٰلٌ } قال أبو عبيدة البيع ها هنا الفداء ، والخلال المخالة ، وهو مصدر . قال الواحدي هذا قول جميع أهل اللغة ، وقال أبو عليّ الفارسي يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب ، والمعنى أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك ، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله ، وينقذه من العذاب ، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله ، ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة فإنهم لا يقدرون على ذلك ، بل لا مال لهم إذ ذاك ، فالجملة ، أعني { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـٰلٌ } ، لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله ، ويمكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون سبب الاشتغال بالبيع ، ورعاية حقوق الأخلاء ، وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال . { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال ، وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية ، والاسم الشريف مبتدأ ، وما بعده خبره { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } المراد بالسماء هنا جهة العلو ، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال إن ابتداء المطر منه . ويدخل فيه السحاب عند من قال إن ابتداء المطر منها ، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح . وتنكير الماء هنا للنوعية أي نوعاً من أنواع الماء ، وهو ماء المطر { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } أي أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقاً لبني آدم يعيشون به ، و « من » في { من الثمرات } للبيان كقولك أنفقت من الدراهم ، وقيل للتبعيض لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم ، ومنها ما ليس برزق لهم ، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ } فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم . ولذا قال { لِتَجْرِىَ فِى ٱلْبَحْرِ } كما تريدون وعلى ما تطلبون { بِأَمْرِهِ } أي بأمر الله ومشيئته ، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَـٰرَ } أي ذللها لكم بالركوب عليها ، والإجراء لها إلى حيث تريدون . { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما . وانتصاب { دائبين } على الحال ، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية ، أي دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره . وقيل { دائبين } في السير امتثالاً لأمر الله ، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما { وسخر لكم الليل والنهار } يتعاقبان ، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم . والليل لتسكنوا كما قال سبحانه { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } القصص 73 { وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } قال الأخفش أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئاً ، فحذف شيئاً . وقيل المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه ، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري . وقيل " من " زائدة ، أي آتاكم كل ما سألتموه . وقيل للتبعيض ، أي آتاكم بعض كل ما سألتموه . وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة " من كل " بتنوين كلّ ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون « ما » نافية ، أي آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له ، ويجوز أن تكون موصولة أي آتاكم من كل شيء الذي سألتموه { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } أي وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه ، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال ، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد ، وضع حصاة ليحفظه بها ، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه ، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط ، ولا أمكنه أصلاً ، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه ، فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها ، واختلاف أجناسها ، اللهم إنا نشكرك على كلّ نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلاّ أنت ، ومما علمناه شكراً لا يحيط به حصر ، ولا يحصره عد ، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ } لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ } العصر 2 . { كَفَّارٌ } أي شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها ، غير شاكر لله سبحانه عليها ، كما ينبغي ويجب عليه . وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْرًا } قال هم كفار أهل مكة . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْرًا } قال هما الأفجران من قريش بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، عن عمر نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن عليّ في الآية نحوه أيضاً . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي الطفيل ، أن ابن الكوّاء سأل علياً عن الذين بدلوا نعمة الله كفراً . قال هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر . قال فمن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ؟ قال منهم أهل حروراء . وقد روي في تفسير هذه الآية عن عليّ من طرق نحو هذا . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال هم جبلة بن الأيهم ، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } قال الهلاك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } قال أشركوا بالله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَـٰرَ } قال بكل فائدة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ } قال دؤوبهما في طاعة الله . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة { وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } قال من كل شيء رغبتم إليه فيه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال من كل الذي سألتموه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم . وأخرجا أيضاً عن بكر بن عبد الله المزني قال يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك . وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال من لم يعرف نعمة الله عليه إلاّ في مطعمه ومشربه ، فقد قلّ عمله وحضر عذابه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال قال داود عليه السلام « ربّ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ ، فأوحى إليّ يا داود تنفس فتنفس ، فقال هذا أدنى نعمتي عليك » . وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال اللهم اغفر لي ظلمي وكفري . فقال قائل يا أمير المؤمنين ، هذا الظلم ، فما بال الكفر ؟ قال { إن الإنسان لظلوم كفار } .