Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 35-41)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ } متعلق بمحذوف ، أي اذكر وقت قوله ، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم ، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة . وقيل إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة . وقيل لقصد الدعاء إلى التوحيد ، وإنكار عبادة الأصنام { رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا } المراد بالبلد هنا مكة . دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا ، أي ذا أمن ، وقدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده ، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا . وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا } البقرة 126 والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد ، والمطلوب هنالك البلدية والأمن { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } ، يقال جنبته كذا ، وأجنبته وجنبته ، أي باعدته عنه ، والمعنى باعدني ، وباعد بنيّ عن عبادة الأصنام ، قيل أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية ، وقيل أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه . وقيل أراد جميع ذريته ما تناسلوا ، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً ، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر { وأجنبني } بقطع الهمزة على أن أصله أجنب . { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ } أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم ، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه ، ثم قال { فَمَن تَبِعَنِى } أي من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً { فَإِنَّهُ مِنّى } أي من أهل ديني ، جعل أهل ملته كنفسه مبالغة . { وَمَنْ عَصَانِى } فلم يتابعني ويدخل في ملتي { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قادر على أن تغفر له . قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به . كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك ، كذا قال ابن الأنباري . وقيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك . وقيل إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك . ثم قال { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } قال الفراء من للتبعيض ، أي بعض ذرّيتي . وقال ابن الأنباري إنها زائدة ، أي أسكنت ذرّيتي ، والأوّل أولى لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } أي لا زرع فيه ، وهو وادي مكة { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } أي الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره وقيل إنه محرّم على الجبابرة . وقيل محرم من أن تنتهك حرمته ، أو يستخفّ به ، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة ، ثم قال { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه ، متوجهين إليه ، متبركين به ، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها ، ولعلّ تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ } الأفئدة جمع فؤاد ، وهو القلب ، عبر به عن جميع البدن لأنه أشرف عضو فيه . وقيل هو جمع وفد والأصل أوفدة ، فقدّمت الفاء ، وقلبت الواو ياء ، فكأنه قال وجعل وفوداً من الناس تهوي إليهم ، و « من » في { من الناس } للتبعيض . وقيل زائدة ، ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم ، لا توجيهها إلى الحجّ ، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه ، وقيل من للابتداء كقولك القلب مني سقيم ، يريد قلبي ، ومعنى { تهوي إليهم } تنزع إليهم ، يقال هوى نحوه إذا مال ، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر ، ويحتمل أن يكون المعنى تجيء إليهم أو تسرع إليهم ، والمعنى متقارب ، { وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ } أي أرزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك ، أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه ، أو تجلب إليه { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } نعمك التي أنعمت بها عليهم . { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } أي ما نكتمه وما نظهره ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان . قيل والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن ، فالمعنى ما نظهره وما لا نظهره ، وقدّم ما نخفي على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه . وظاهر النظم القرآني عموم كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك . وقيل المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه ، حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع ، وما يعلنه من ذلك . وقيل ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء . والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط ، بل أراد جميع العباد ، فكأن المعنى أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه . وأما قوله { وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَىْء فَى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } فقال جمهور المفسرين هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه ، فقال سبحانه { وما يخفى على الله شيء } من الأشياء الموجودة كائناً ما كان . وإنما ذكر السمٰوات والأرض لأنها المشاهدة للعباد ، وإلاّ فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم ، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية . قيل ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقوله الأوّل ، وتعميماً بعد التخصيص . ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ } أي وهب لي على كبر سني وسنّ امرأتي ، قيل ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ، قيل و « على » هنا بمعنى " مع " أي وهو لي مع كبري ويأسي عن الولد { إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء } أي لمجيب الدعاء ، من قولهم سمع كلامه إذا أجابه واعتدّ به وعمل بمقتضاه ، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول ، والمعنى إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك ، ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظاً عليها غير مهمل لشيء منها ، ثم قال { وَمِن ذُرّيَتِى } أي بعض ذريتي ، أي اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة ، وإنما خصّ البعض من ذريته لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي . قال الزجاج أي اجعل من ذرّيتي من يقيم الصلاة ، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم ، ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولاً أوّلياً . قيل والمراد بالدعاء هنا العبادة ، فيكون المعنى وتقبل عبادتي التي أعبدك بها ، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه ، مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيراً ، لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر . ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه ، وقد قيل إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } التوبة 114 . وقيل كانت أمه مسلمة ، وقيل أراد بوالديه آدم وحوّاء . وقرأ سعيد بن جبير " ولوالدي " بالتوحيد على إرادة الأب وحده . وقرأ إبراهيم النخعي " ولولديّ " يعني إسماعيل وإسحاق ، وكذا قرأ يحيـى بن يعمر ، ثم استغفر للمؤمنين . وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذرّيته أو لم يكن منهم . وقيل أراد المؤمنين من ذرّيته فقط . { يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } أي يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر ، استعير له لفظ يقوم الذي هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة . وقيل إن المعنى يوم يقوم الناس للحساب . والأول أولى . وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } الآية قال فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته . واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماماً ، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه . وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، عن عقيل بن أبي طالب « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه ، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه ، فقرأ من سورة إبراهيم { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } إلى آخر السورة ، فرّق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه . وأخرج الواقدي ، وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال كانت سارّة تحت إبراهيم ، فمكثت تحته دهراً لا ترزق منه ولداً ، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية ، فولدت له إسماعيل ، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها ، وعتبت على هاجر ، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أطراف ، فقال لها إبراهيم هل لك أن تبرّي يمينك ؟ قالت كيف أصنع ؟ قال اثقبي أذنيها واخفضيها ، والخفض هو الختان ، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً ، فقالت سارّة أراني إنما زدتها جمالاً ، فلم تقارّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً ، فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } قال أسكن إسماعيل وأمه مكة . وأخرج ابن المنذر عنه قال إن إبراهيم حين قال { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ } لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحكم قال سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ } فقالوا البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه . وفي لفظ قالوا هواهم إلى مكة أن يحجوا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } قال تنزع إليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } نقل الله الطائف من فلسطين . وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في شعب الإيمان ، قال السيوطي بسندٍ حسن ، عن ابن عباس قالوا لو كان إبراهيم عليه السلام قال فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجّ اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال أفئدة من الناس فخصّ به المؤمنين . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } قال من الحزن . وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى } قال من حبّ إسماعيل وأمه { وَمَا نُعْلِنُ } قال ما نظهر لسارّة من الجفاء لهما . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ } قال هذا بعد ذلك بحين . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال بشر إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة .